كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

دانتي، حامل الجناح طويل البقاء 1من2

مروان حبش- فينكس

كانت ولادته في شهر أيار 1265 في فلورنسة، وسماه والداه "دورانتي ألجيري"، ومعنى هذين اللفظين "حامل الجناح الطويل البقاء"، وهو الذي اختصر اسمه بـ "دانتي"، وكانت لأسرته سلسلة نسب طويلة في المدينة، ونشأ مع زوجة أبيه بعد وفاة أمه في السنين الأولى من عمره، ولعله لم يكن سعيداً مع أخوته وأخواته غير الأشقاء. وتوفي والده وهو في الخامسة عشرة من عمره، والعائلة مثقلة بالديون. وتزوج وهو في السادسة والعشرين من عمره من جيما دوناتي، وأنجبت له عدة أبناء.
دانتي السياسي
ألقى دانتي، وكان ذا مواهب سياسية، بنفسه في بحر السياسة، وانضم إلى حزب "البيض" وهو حزب الطبقة المتوسطة العليا، واختير في عام 1300، عضواً في المجلس البلدي، وحدث أن حزب السود برئاسة كورسو دوناتي، حاول القيام بانقلاب سياسي لإعادة الأشراف الأقدمين إلى الحكم، ولكن أعضاء المجلس البلدي "المقدمون" أحبطوا الانقلاب وسعوا لنشر لواء السلام في المدينة بنفي زعماء الحزبين، ومنهم صديقه كفلكانتي، وصهره دوناتي الذي عاد بعد عام وغزا فلورنسة بعصبة من حزب السود المسلحين، واستلم زمام الحكم، وخلع "المقدمين" وحوكم دانتي مع خمسة عشر من المواطنين، وأدينوا بعدة جرائم سياسية، ونفوا من المدينة وحكم عليهم بالقتل حرقاً، إذا عادوا إليها مرة أخرى. واضطره هذا النفي وما صحبه من مصادرة أمواله إلى أن يقضي تسعة عشرة عاماً في فقر مدقع، وتجول في البلاد والغل والحقد يملأ قلبه، وكانا من أسباب مزاجه الذي يسود موضوع "الملهاة الإلهية". وبعد أن أخفقت محاولة شركاؤه في النفي، الذين أقنعوا حكام بعض المدن بأن يسيروا جيشاً على فلورنس، وقد فعلوا هذا رغم نصيحة دانتي لهم ألا يقدموا على ذلك. واختط لنفسه من ذلك الوقت خطة خاصة، وعاش مع أصدقائه في بعض المدن.
شرع دانتي بتواضع، العمل على مشروع لإعادة حكم أباطرة الدولة الرومانية المقدسة في إيطاليا، ذلك أن تجاربه قد أقنعته بأن منشأ ما في الأقاليم، والمدن الإيطالية من فوضى وعنف هو فهمها الخاطئ للحرية، ومطالب الطبقات الاجتماعية، والأفراد، وكل ذي شهوة، بالحرية الفوضوية. وكان توقه إلى وجود قوة تنسق الجهود وتجعل منهم كلاً منظماً يستطيع الناس بواسطته أن يعملوا ويعيشوا في سلم وأمان. وأن هذه القوة إما أن تأتي من البابا أو من امبراطور الدولة الرومانية الشرقية، التي كان شمالي إيطاليا يخضع لها. ولكن الباباوات ظلوا زمناً طويلاً يعارضون توحيد إيطاليا لأن هذا يعرض للخطر حريتهم الروحية وسلطتهم الزمنية. ولهذا فإن الأمل الوحيد في عودة النظام إلى البلاد هو إعادة السلطة الامبراطورية، بالرجوع إلى "السلم الرومانية" التي بسطت لواءها روما القديمة.
في هذه الظروف كتب دانتي كتابه "في الملكية المطلقة" باللغة اللاتينية، وكانت لا تزال لغة الفلسفة، وقال: (إنه لما كان عمل الإنسان الذي يليق به هو النشاط الذهني، ولما كان عاجزاً عن ممارسة هذا النشاط إلا في السلم، فإن الحكم المثالي هو إقامة دولة عالمية تقر السلام وتبسط العدالة على جميع سكان الأرض. وهذه الدولة هي المطابقة للنظام السماوي الذي وضعه الله في الكون. وكانت روما الإمبراطورية هي أقرب الدول إلى هذه الدولة العالمية.
ألَّف دانتي كتابه هذا، حين امبراطور ألمانيا غزا إيطاليا في عام 1310 راجياً أن يبسط سلطته على شبه الجزيرة كلها، عدا الولايات البابوية، ورحب به دانتي وجاشت في صدره آمال كبار، وأهاب في رسالة موجهة إلى أمراء إيطاليا وشعوبها، ـأن تفتح قلوبها وأبوابها إلى هذا القادم الذي سينجيها من الفوضى والباباوات، وخيل إلى دانتي الذي هرع إلى ميلان حين وصل إليها "الغازي" وألقى بنفسه عند قدمي الامبراطور، وخيل إليه أن كل ما كانت تصوره له أخلامه من قيام إيطاليا موحدة يوشك أن يتحقق، ولكن فلورنسة أوصدت أبوابها في وجه الامبراطور, ووجه دانتي وهو في سورة الضب رسالة إلى الفلورنسيين: "...0. يا أحمق الناس وأبلدهم احساساً، سوف تخضعون صاغرين إلى النسر الامبراطوري". ولكن الامبراطور ترك فلورنسة وشأنها، وساء دانتي ذلك، وكتب إلى الامبراطور: "لسنا ندري أي خمول يقعدك عن العمل هذا الزمن الطويل ... لعلك لا تعرف أن فلورنسة مصدر الشر المستطير ... وأنها هي الأفعى"، وكان رد فلورنسة أن أعلنت حرمان دانتي من كل عفو يصدر عن الخائنين. وكان موت الامبراطور الغازي عام 1313 بعد أن انتقل إلى روما، من أشد الفواجع على دانتي الذي كان قد قامر بكل شيء على انتصار الامبراطور، وحرق من ورائه كل الجسور الفلورنسية وفرَّ إلى "جيبيو" والتجأ إلى دير الصليب المقدس. ويبدو أنه كتب في هذا الدير جزءاً كبيراً من "الكوميديا الإلهية".
لقد كان كتاب "الملكية المطلقة"، دفاعاً قوياً عن قيام عالم واحد ذا حكومة وشرائع واحدة. وانتشر مخطوط الكتاب بعد وفاة دانتي، واتخذه لويس البافاري، عدو البابوية، وسيلة للدعاوة، ثم أُحرِقَ الكتاب علناً، بمرسوم بابوي، عام 1329، وأُدرِج في القرن السادس عشر في الثبت البابوي المحتوي أسماء الكتب المحرمة، ولكن البابا ليو الثالث عشر رفعه من هذا الثبت في عام 1897.
غير أنه لم يكن قد اعتزل السياسة، وكان في مدينة "لوكا "مع حاكمها فجيولو عام 1316، وفي ذلك العام هزم قجيولو الفلورنسيين الذين استفاقوا من هذه الهزيمة وضمَت ابني دانتي إلى المحكوم عليهم بالإعدام –لم ينفذ هذا الحكم قط-. وخرجت "لوكا" على فجيولو وألفى دانتي نفسه مرة أخرى بلا وطن. ورأت فلورنسة أن تنسى أحكامها الأبدية، فعرضت أن تعفو عن جميع المنفيين وتؤمنهم على حياتهم إذا عادوا إلى بلدهم، على شرط أن يؤدوا لها غرامة مالية، وأن يسيروا في شوارع المدينة بثياب الندم، وأن يزج بهم في السجن لمدة قصيرة. ولكن دانتي ردَّ على صديقه الذي أبلغه بالقرار (إلى صديقي: .... انظر إلى ما هو مفروض عليَّ... ذلك أنني إذا ما قبلت أن أؤدي قدراً من المال وأن أتحمل وصمة السجن، فسو يعفى عني. فهل إذن هي الدعوة التي توجه إلى دانتي الألجيري ليعود إلى وطنه بعد أن صبر على النفي ما يقرب من خمسة عشر عاماً؟ ...إن رجلاً ينادي بالعدالة لا يطيق أن يؤدي ماله إلى من يرتكبون المظالم...ألا إن هذه ليست الطريقة التي أعود بها إلى بلدي.... إن في وسعي يا صديقي أن أستمتع بنور الشمس وجمال النجوم في كل مكان على ظهر الأرض، وأن أفكر في أعظم الحقائق شأناً تحت كل سماء).