كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

"العوينة" في ذاكرتي

صفوان زين- فينكس

في "العوينة" ولدتُ، وتحديداً في الطابق الأول من الدار الفسيحة التي بناها جدي الحاج علي زين مطلع القرن الفائت، وفي العوينة ترعرعتُ وشببتُ عن الطوق، وعلى تراب شارعها المغبرّ صيفاً والموحل شتاءً مارستُ مع أترابي من أبناء الحي كل ما كان سائداً من ألعاب الطفولة في تلك الأيام.
أول ما تناهى الى سمعي في طفولتي المبكرة وقْعُ خطوات جدي في الطابق الذي يعلونا ونقرةُ عصاه على الأرض متوجهاً الى جامع العوينة او قافلاً منه خمس مرات في اليوم بغرض تأدية الصلوات الخمس في مواعيدها، اذ لم يعد يبرح منزلَه بعد أن تقدّم به العمر إلا لهذا الغرض.
أمّا أول ما استرعى انتباهي، وأثار فضولي، فهو مشهد الجِمال السارحة في الحواكير الخضراء المتاخمة لمنزلنا والممتدة الى سفح القلعة صعوداً الى أعلاها حيث الحاووز (خزان الماء) الذي يروي المدينةَ بكاملها، وحيث يربضُ قريباً منه مدفعُ رمضان الشهير طيلةَ أيام الشهر الفضيل.قد تكون صورة ‏شجرة‏
أما المشهد الآخر الذي لم يكن يقل روعةً وجمالاً، فهو مشهدُ القلعة صبيحةَ الأول من نيسان الشرقي من كل عام، حيث تبدو من بعيد أكمةً خضراء يانعة مرصعةً بالمئات وربما الآلاف من النسوة والأطفال، النسوة المتشحات باللباس التقليدي الأسود وقد افترشنَ الأرض مع اطفالهن بألبستهم الملونة لتناول افطار الأول من نيسان المترافق دوماً مع "سنبلة العافية" المقطوفة للتوّ من حقل القمح المجاور لهن. مشهد رائع لن يبرح مخيلتي أبداً.
لقد كان من حسن طالعي أن "العوينة" التي أمضيت فيها الثمانية عشرة عاماً الأولى من حياتي كانت تنفتح جنوباً على الحي المسيحي التاريخي المسمى بالحارة الفوقانية أو حارة القناصل، ومن بعده مباشرة الحي الأرمني التاريخي المسمى بالكيدون، أما شمالاً فكانت تنفتح على مدخل المدينة وعلى الأرياف الخضراء الممتدة وراءه، وشرقاً على القلعة وحيّها وغرباً على الشيخضاهر وسوق الدمياطي (شارع القوتلي لاحقاً).
لقد أتاح لها هذا الموقع الجغرافي المميز أن تكون موئلاً و معبراً لكل ألوان الطيف الاجتماعي، وأتاح بالتالي لساكنيها ان يكونوا على تماس وإلفة مع العادات والتقاليد الجميلة المرتبطة بهذا الطيف المتنوع الأشكال والتعبيرات، وأن يتعايشوا في ظلها على مر السنين بكل مودة و تفاهم.
شريط الذكريات يعود بي الى طفولتي المبكرة، الى الشارع الترابي المليء بالحفر والأخاديد حيث كنا نترقب صباح كل يوم من أيام الصيف اللاهبة وبلهفة شديدة مرورَ بائع البوظة بالحليب لدى نزوله من ناعورة حي القلعة كي نظفر بالخفقة اللذيذة قبل أن تظفر بها الأحياء الأخرى، ثم قافلة الجِمال بقيادة جمّالها على حماره في المقدمة في مشهد يتكرر مرات عدة في اليوم الواحد في حي امتهنت بعض عائلاته منذ القدم تربية الجِمال واستخدامها كواسطة للنقل بين الريف والمدينة، من هنا شهرة حي العوينة ببايكاته المستعملة كحظائر للجِمال.
محمد مجيد قضيماتي كان أحد أبرز جمّالي الحي، وقد ُعرف عنه غنى تجربته في هذا المجال مما شكّل حافزاً لي كي أتعرف اليه مع أنه كان في عمر والدي. بالنتيجة لم تكن جِماله، ما شدني اليه بل تجربته المثيرة كجندي خدم في الجيش العثماني و خاض غمار الحرب العالمية الأولى (السفر برلك) في أشد ميادينها هولاً في جبهة القفقاس.
كنت في المرحلة الإعدادية في بداية انشدادي الى مادة التاريخ، ولقد وجدتُ في القضيماتي الإنسان شبه الأمي ضالتي المنشودة حيث كان يروي لي يومياً وعلى حلقات وكشاهد عيان أهوالَ ما خبر وشاهد.
ليس بعيداً من القضيماتي وبايكته، كان الحاج سليم بصيري المصاب بالصمم الكامل قد اكتسب شهرةً لا تعادلها شهرة من نجاحاته المذهلة في إزالة الثآليل (تواليل) بواسطة أدعية وطقوس لم يقف أحد على كنهها.
على بعد أمتار الى الغرب من منزلنا كانت ساحة العوينة مسرحاً لأنشطة متنوعة تتراوح بين تجمعات الأعياد والتجمعات السياسية وحلقات الطب البيطري، وفي طليعتها عمليات خصاء الفدادين التي كنا نتنادى لمشاهدتها والتي كان ُيجريها أحد أبناء الحي أحمد عيد سقاطي بإشراف الطبيب البيطري يوسف جمّال والد الشهيد جول جمّال المقيم في الحي نفسه على بعد خطوات من بيتنا.
كانت الحارة الفوقانية المتاخمة جنوبا لحي العوينة هي الحي المسيحي الأقدم والأعرق، وكانت تفصل بين الحارتين منطقة سكن مختلط فرضه التداخل السكاني في إطار من الجيرة والمودة المتبادلة.
صحيح ان فروقاً كانت قائمة في بعض الممارسات النابعة من التقاليد ذات الجذر الديني، غير أن تلك الممارسات كانت مثار اعجاب من الطرف الآخر ولم تكن مثار استغراب أو استهجان، كان المسيحيون على سبيل المثال يجدون في التقاليد الرمضانية كل ما يدعو الى الإثارة والتشويق، وكان المسلمون يشاهدون بإعجاب ممزوج برغبة مكتومة بالمشاركة عمليةَ "تطقيش"البيض الجارية على قدم وساق في الساحة المتاخمة لمدرسة الروم بمناسبة عيد الفصح، كما كانوا معجبين بالتحية التقليدية "سعيدة "والرد عليها "سعيدة مباركة" عندما يجري تبادلها مع السيدات الجالسات أمام منازلهن وقت الغروب، وهي الجلسات التي كانت تمنح الحارة الفوقانية نكهتها المميزة.
أما إذا اتجهنا شمالاً، فغالباً ما كنا نلتقي ببدايات نزوح بعض العائلات من الريف وإقامتها على تخوم العوينة أو في قلب العوينة، كعائلة أستاذنا المرحوم احمد الخيّر مدفوعةً لذلك بأسباب ترتبط بالعمل أو بالدراسة أو بكليهما معاً.
محمد عطا صوفي كان لولب حي العوينة، كان المختار غير المتوَّج للحي بكامله ولسكانه من مختلف الطوائف. كانت دكانه الملاصقة لمنزلنا هي واحدة من اثنتين في الحي بكامله، لم تكن مجرد دكان لبقّال عادي بل كانت مركز استقطاب لمختلف أنواع الخدمات التي كان المرحوم أبو زاهي يؤديها بلا مقابل وبكل أريحية.
ما ان أعود من مدرستي بعد الظهر حتى أهرع الى دكانه كي أمارس هوايتي المفضلة في مراقبة ورصد كل ما يحدث في دكانٍ كانت تختصر بما يدور فيها وأمامها ومن حولها كلَّ حكايا وقصص حي العوينة.
أول ما اكتشفته، وكان وعيي قد بدأ يتأثر بموجة اليسار الزاحف الى الوسط الطلابي هو مقدار الفقر والمرض المستشريَين لدى شريحة واسعة من أبناء العوينة وخاصة الأطفال منهم.
كان مألوفاً جداً مشهد الأطفال المصابين بالجدري و برمد العيون و بالتشوهات الخلقية، كما كان مألوفاً أن يتوافد أطفال الحي الفقراء بصحونهم المعدنية وقواريرهم الصغيرة كي يبتاعوا بدريهماتهم القليلة ما يقيم أودَ أسرهم يوماً بيوم إذ ان المؤونة السنوية بمفهومها الذي عرفه الميسورون كانت بالنسبة لهم حلماً بعيد المنال.
مساءً كانت دكان عطا صوفي تتحول الى منتدى للحوار والنقاش في مختلف المواضيع، فلقد كان الزمن، ونحن نتحدث عن مطلع الخمسينيات، زمنَ حريات بكل أبعادها.
كانت المدينة منقسمةً سياسياً بين حزبي الشعب والوطني، وبالتوازي رياضياً بين ناديي الجلاء المحسوب على حزب الشعب والساحل المحسوب على الحزب الوطني، أما الأحزاب العقائدية فكانت أحزاباً نخبوية وكان تأثيرها في الشارع ما زال ضعيفاً.
كنت الأصغر سنّاً في منتدى عطا صوفي، ولكن الأكثرَ متابعةً للأحداث بين مجموعة من أبناء الحي الطيبين الغارقين في همومهم المعيشية وفي اصطفافاتهم الحزبية والانتخابية الضيّقة، وبسبب حرصي الشديد على مودتهم جميعاً دون تمييز، فقد كنت أحجم في معظم الحالات عن تصحيح معلوماتهم المستمدة من مواقف منحازة لم يكونوا على استعداد للتخلي عنها.
انسلاخي عن العوينة أتى دفعة واحدة بعد حصولي على الشهادة المتوسطة وانتقالي الى المرحلة الثانوية، لم تعد العوينة بأجوائها المحافظة تُلبي تطلعاتي كمراهق، لذا قررت أن اتجه غرباً بضع مئات من الأمتار الى نقطة البوليس كي انضم الى حلقات الحوار بين الطلاب على الأرصفة، حوار لم يكن ليقطعه سوى اجتياز إحدى الجميلات لتقاطع الشوارع القائم هناك.
ومن نقطة البوليس كان الانطلاق الى دور السينما ومنها الى الكورنيش الغربي حيث الفرصة متاحة لتبادل نظرات الإعجاب مع الفتيات المتنزهات وهو أقصى ما كان يطمح إليه مراهق تلك الأيام.
هذا الانسلاخ المادي عن العوينة لم يحُل دون استمرار تعلقي العاطفي بها. كنت أعود الى دكان عطا صوفي بين الحين والآخر كي استطلع أخبار أهل الحي.
تغيرت أمور كثيرة مع الأيام، جرى تعبيد وتزفيت الشارع الرئيسي بعد تمديد شبكة صرف صحي فيه وسط مظاهر فرح عارم، هدمت بايكات الجِمال بعد ان تلاشى استخدام الجمل كواسطة للنقل.
توفي راوي تاريخ السفر برلك محمد مجيد قضيماتي كما توفي قاهر التآليل الحاج سليم بصيري بعد ان أورث سرَّه الى ابنته البكر التي تابعت رسالته بنجاح لم يرقَ الى مستوى نجاح والدها.
تحول عطا صوفي من السمانة الى بيع الحليب، واللبن حصراً، و تفوق في ذلك على جميع اقرانه.
في هذه الأثناء كنا قد بارحنا دار آل الزين في العوينة بغصة في الحلق بعد أن اخذ البناء يهرم، وانتقلنا الى منزل أقرب الى حي القلعة.
أصبح ترددي على العوينة أكثر ندرةً، وفي كل زيارة لها كنت أشهد صورةً للعوينة أكثر بعداًعن الصورة الجميلة الراسخة في مخيلتي، الى ان انقلب المشهد بالكامل.
لم يبقَ شيء من العوينة القديمة، لا من ناسها و لا من بيوتها، لم يبقَ سوى المنزل الذي ولدتُ فيه، يتداعى بصمت وكبرياء محجوباً عن الأنظار خلف كتل من الأبنية الأسمنتية السامقة.
منذ مدة قرأت على الفيس بوك توزيعاً طريفاً للإختصاصات على احياء المدينة، وقد لفت نظري منح العوينة اختصاص ما أسموه بالساتلايت.
من المفارقات أن الحي الذي ارتبط في الماضي بالجِمال وبايكاتها، أصبح الآن مرتبطاً بالفضائيات وصحونها، انه تحول دراماتيكي فاق كل تصوراتنا نحن أبناء العوينة المخضرمين الذين قُدر لنا أن نفتح أعيننا على المشهد الأول الراسخة صورته في ذاكرتنا، فعلى أي مشهد سوف نغمضها؟