كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

غادرت وطني منذ 42 عاماً لكن الوطن لم يغادر قلبي أبداً

د. جوليان بدور- فينكس

بمناسبة قدومي الى فرنسا في عام ١٩٨١، سأتحدث عن شيء يخصني شخصياً، أنا الذي لا أحبذ الحديث عن الحياة الشخصية. سأتحدث اليوم عن شيء يشبه عيد ميلاد ثان لي. بينما غالبية الناس عندهم عيد ميلاد واحد، إلّا أنا، عندي عيدي ميلاد على الأقل: الأول عيد ميلاد بيولوجي من أب وأُم يقيمان في قرية نائية في سورية. حيث ولدت مبدئياً في عام 1957. والثاني، وهنا المفاجأة، وهي عندما لمست قدمي أرض فرنسا في يوم الثالث من شهر تشرين الأولى عام ١٩٨١ (٣/١٠/١٩٨١) أي منذ اثني وأربعين عاماً.
لماذا أعتبر هذا التاريخ عيد ميلاد ثانٍ لي؟ لأنني عندما وصلت الى فرنسا لم أكن أتكلم اي كلمة فرنسيه. كنت وحيداً اسماً وفعلاً (اسمي السوري وحيد). أي ليس عندي أي قريب ولا أعرف اي شخص مقيم هنا، وعليّ أن أتعلم كل شيء من الصفر: اللغة والعادات والتقاليد وطريقة الحياة والتفكير…
لكن ما ساعدني على تجاوز كل هذه الصعوبات هو أن بلدي وأهلي علموني وزودوني بكل ما يلزم من مبادىء وقيم وأخلاق أصيلة وصحيحة لمجابهة الحياة في الغربة. أي إنني كنت أملك ثقافة وعادات وتقاليد وشهادات وخبرة ورؤية جيدة ساعدتني في مجابهة وتجاوز الصعوبات والمشاكل هنا في فرنسا. ولكن ما الفائدة من كل هذا الإرث والقيم واللغة والشهادات إن لم تستطع استخدامها أو لم يفهمها ويتقبلها الناس والمجتمع الذي قصدته للتعلم والدراسة. وهنا تحولت حياتي الى صراع يومي قاسٍ وطويل بين قيم ومبادئ منظومتين ثقافيتين مختلفتين، أي المنظومة الثقافية السورية القديمة والعريقة والأصيلة والمنظومة الفرنسية الحديثة والمشهورة. صراع عنيف ينتابي يومياً وبلا هوادة منذ أن وطأت قدمي أرض فرنسا في عام ١٩٨١.
أنا عشت وتربيت مع عائلة مكونة من ٩ أطفال وأب وأُم يقيمون في قرية نائية ويعملون ليل نهار في الأرض من أجل كسب القليل وتقاسم هذا القليل على عائلة مكونة من إحدى عشر نفس. عشنا في بيت صغير مبني من الحجر والتراب في بيئة صافية ونقية من أي تلوث وفي قرية صغيرة رائعة الجمال بدون طريق وسيارات وبدون كهرباء وتلفزيون أو أي وسيلة أخرى ما عدا جهاز الراديو. في عائلة متماسكة علاقاتها مبنية على المحبة والمودة والصدق والاحترام، خالية من الغش والكذب والتحايل، وقوامها العمل والجهد بدون حدود من أجل تأمين الحد الأدنى للعيش والاستمرار بالحياة. والدتي (الفلاحة القروية التي أمضت حياتها مع والدي طبعاً في تربية وخدمه عائلة من تسعة أشخاص دون أن تفكر ولو للحظة واحدة بنفسها ورغباتها ودون أن ترفع يدها على أيّ منا) كانت تكرر القول لي دائماً: "لا تكن أنانياً يا أبني وتمنى الخير للجميع حتى يصيبك الخير؛ الطمع ضر وما نفع"؛ كانت دعوتها لي ولأخوتي بالقول "الله ينجحك وينجح كل أولاد العالم؛ الله يوفقك ويوفق كل أولاد العالم. يا ابني لا تنسى فضل الناس عليك ويلي بينسى أصله ما فيه خير وليس له مستقبل". وتكرر النصح والقول و"ما حدا بعد الموت راح يأخذ معه شيء إلا سمعته و صيته". عندما تنشأ وتتربى وتترعرع على ثقافة قائمة على قيم الاحترام والتقدير والمساواة والصدق والإخلاص والجد والعمل والصبر والثبات وتمني الخير للأخرين ليس فقط تبقى محفورة في ذاكرتك الى أبد الآبدين بل أنت مسلح بأكثر الوسائل قوة، وحسبك بها لمجابهة وتجاوز صعوبات الغربة ومشقتها.
شاءت الصدف أني سافرت واستقريت وقضيت أغلب سنوات حياتي في بلد له عاداته وتقاليده الذي أحترمها وأُقدرها، ولكن تبقى في الأساس مختلفة بل وحتى معاكسة وبعض الأحيان مناقضة للقيم والعادات التى تعلمتها ونشأت عليها في بلد المنشأ.
فرنسا وكل الدول ذات النظام الرأسمالي لها منظومة قيم أخلاقية واجتماعية واقتصادية منبثقة من المبادىء الفلسفية للنظام الرأسمالي. ويمكن تلخيصها على المستوى الشخصي، من أجل عدم الإطالة وباختصار شديد في ثلاثة مبادىء: الأنانية والفردية وحب الذات، أي مصلحتك الشخصية، على العموم، سواءً في الحب والمال والعمل والحياة، تأني قبل مصالح الآخرين ويجب الدفاع عنها وتحقيقها ولو تم على حساب مصالح الآخرين. بمعنى إنه لا يوجد سوى القليل من الروابط المشتركة ما بين المبادئ والقيم التى تربيت وترعرعت عليها وما هو سائد في فرنسا البلد المضيف. لهذا السبب كان في داخلي ومخيلتي صراع مستمر لم يتوقف حتى هذه اللحظة ما بين هاتين المنظومتين الثقافتين المختلفتين.
ولكن قد يسأل أحدكم أنت تميل الى أي من الثقافتين؟ الجواب وكما كتبت أعلاه بأنني أحترم وأقدر ثقافة البلد الذي أعيش فيه وأعمل بكل جد وشرف وإخلاص. ولكن لم أستطع في الحقيقة نسيان ولو للحظة واحدة ما زودتني به والدتي الحنونة أم وحيد وعجزت عنه أعرق المدارس والجامعات: "لا تكن أنانياً يا بني، يلي بينسى أصله ما فيه خير وما له مستقبل، وما حد راح يأخذ معه شيء إلا صيته وسمعته"……
أمنيتي في هذه الحياة أن يعم السلام ليس فقط في بلدنا الحبيب وإنما أيضاً في العالم كله، وأن تتوقف معاناة شعبنا في سورية ويستعيد البلد سيادته وعافيته.
وأخيراً: كل ما أرجوه من الله أن أقضي السنين الأخيرة من حياتي في قريتي وبلدي، وأن أرقد الى أبد الآبدين إلى جانب من زودني بمثل هذه القيم والمبادئ التي شكلت الأسس الرئيسية لمحبتي للحياة ولنجاحي في دراستي وعملي في الغربة.
وكل عام وأنتم سالمين، ودمتم ودامت سورية بألف خير.