كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

القانون والقمع

مروان حبش- فينكس

 ماذا تريد يا صديقي؟ القانون ضروري وحيث إنه ضروري ولا غنى عنه فهو جيد، وكل ما هو جيد مقبول. "أيونيسكو- مسرحية ضحايا الواجب"
القانون عند شيشرون، والرواقيين هو (التفكير الصحيح المتفق مع الطبيعة)، أي أن القانون يعمل لجعل الصلات التي تنشأ من دوافع الناس الاجتماعية صلات منظمة مستقرة، وفي ذلك يُقال: (إن الطبيعة قد غرست في نفوسنا الميل إلى حب الناس).
إن سؤالاً ذو أهمية كبيرة يُطرح عمَّا إذا كان القانون ضرورياً فعلاً، إنه سؤال ينبع من الشك القلق والمحيّر ليس فقط في أن القانون يمكن أن يُستغنى عنه أو قد يكون غير ضروري لخلق مجتمع عادل، بل إنه قد يكون شراً في ذاته، وبالتالي فهو عقبة خطرة في سبيل تحقيق طبيعة الإنسان الاجتماعية، ومهما كانت وجهة النظر هذه غريبة لأولئك الذين يعيشون في مجتمع ديمقراطي فإن من المفيد أن نتذكر بأن سريان القانون قد يبدو في مظهر غير محبب في العديد من المجتمعات غير الديمقراطية، وتشعر باستياء عام من كل سلطة وتستجيب لمشاعر الاستياء هذه بالتعبير عنها بمختلف الأعمال والتظاهرات ضد قوى النظام والقانون، وتنبذ القانون كلية أو أن تعتبره شراً لا بد منه لا يلائم إلا مجتمعاً بشرياً ناقصاً من كل النواحي.
نجد في الصين القديمة، في القرن الثالث قبل الميلاد مدرسة مشهورة اسمها "المشرع" تؤمن في بعض مبادئها بـقانون واحد مقترن بعقوبات شديدة لضمان تنفيذه، أفضل من كل كلمات الحكماء لحفظ النظام". ويرى القديس أوغسطين 354- 430 م أن قانون الدولة والقمع ليسا شريرين في ذاتهما، بل هما جزء من النظام الإلهي كوسيلة لكبح عيوب الإنسان المتولدة عن الخطيئة. ويرى ديفيد هيوم 1711- 1776م: "إن المجتمع البشري لن يكون له وجود بدون القانون والحكومة، والقانون ضرورة طبيعية للبشر".
في مطلع القرن الثالث عشر بدأت أفكار أرسطو عن وضع الإنسان الاجتماعي تتسرب إلى أوربا الغربية، وآن الأوان لقيام تغير في الأفكار المسلم بها، وأن التطور الطبيعي للدولة من دوافع الإنسان الاجتماعية، كما أكد توماس الأكويني (1225-1274م ) الذي عمل على اخضاع الفلسفة للاهوت، أن الدولة ليست شراً بالضرورة ولكنها مؤسسة طبيعية لتطور الرفاه الإنساني، ووضعَ أيضاً الأساس الهام للمفهوم العلماني للقانون، وذلك عندما اعتبر القانون ليس مجرد قوة مفيدة لكبح نزعات الإنسان الشريرة فحسب، بل أيضاً لوضعه في طريق الانسجام الاجتماعي والرفاه. ومن هنا فإن القانون أداة فعالة لتحقيق أهداف الإنسان التي توجهه إليها دوافعه الاجتماعية أو الخيرة.
ولكن هل يمكن فصل فكرة القانون عن نظام القمع؟ يقال إن البشرية لم تصل إلى دور الدولة دون وجود عنصري القانون والقوة. وحسب عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر (1864-1920م) فإن السلطة قد تتخذ أحد الأشكال الثلاثة التالية: الموهبة الإلهية، أو العرف، أو القانون، ويقصد بكلمة قانون هو أن السيطرة في ظل هذا الشكل ليست شخصية، ويصبح طابع السلطة إلى حد كبير طابع المؤسسة المستندة إلى الإيمان بشرعيتها، في ظل نظام قانوني يحتكر شرعية استخدام القوة. ومع ذلك ظهر مفكرون عبر كل العصور رفضوا المفهوم القمعي لقوى القانون والنظام، وأن الإنسان خيِّرٌ بالطبع وسيظل كذلك، وأن البيئة الاجتماعية هي أساس الشرور في الوضع البشري، وخاصة وجود قانون مفروض من عَلٍ. ويرى أفلاطون أن المجتمع المثالي هو مجتمع متحر ر من القواعد القانونية، يسود فيه الانسجام العقلاني كنتيجة للدوافع الاجتماعية والإحساس الطيب لدى أعضائه، وحكامه الفلاسفة الذين يتم اختيارهم بفضل حكمتهم ومعرفتهم. وهذه نزعة يمكن تسميتها بـ (السلطان الكلي للدولة).
ومع مبدأ العقلانية الذي يؤمن بأن نظامي العالم الطبيعي والأخلاقي أقيما على أسس عقلانية وأن عقل الإنسان أسهم في طبيعة الكون العقلانية وبذلك فهو قادر على فهمها، إن إيماناً كهذا بالعقل البشري في مضمار الأخلاق يستلزم حتماً قيام فكرة القانون الأخلاقي على أساسي عقلاني تنبثق صفته الآمرة من أن على عقل الإنسان أن يقبل الحل العقلاني باعتباره الحل الخلقي أو الحل الحق. وحيث أن الكون قائم على أساسي عقلاني، فإن العقل يقبل الأحكام والقوانين التي صمدت بوجه العقلانية.
وهناك مقولة تستحق الاعتبار وهي ان القوة أو العنف خطأ في حد ذاتهما، وأن القانون الذي يرتكز كلياً على العنف ينتهك مبادئ الآداب الحقة والأخلاق التي هي وسيلة لراحة العيش في المجتمع، وأن القوة هي نفي أو تحطيم للقانون، وأن اللجوء إلى العنف يقع خارج إطار القانون، ويلجأ إليه عندما يعطل حكم القانون الذي يجب أن يحتكم إلى العدل والأخلاق والضمير الإنساني.
يعمل القانون كأداة لتوجيه النشاط الإنساني ووضع القيود عليه. مع ضرورة أن تتجسد فكرة الحرية في القانون، وأن الضوابط لا تعني تعدياً على الحرية المرتبطة ارتباطاً وثيقاً بمفهوم المساواة في المجتمع واحتلت مركز
الصدارة في سلم القيم التي تعتبر المثاليات الفعالة في المجتمع الديمقراطي.
إن فكرة القانونين اللذين يرتكز أحدهما على السلطة البشرية وحدها وآخر على الأصل الطبيعي ويسمو على القانون الوضعي، مرَّت بتاريخ طويل ومتغير وما تزال تتمتع بالحيوية ذاتها وإن القانون كظاهرة اجتماعية، وظيفته لحمة الضبط الاجتماعي وعلى علاقة دائمة بمفهوم أو تصور المجتمع العادل. وهو بؤرة فعالة تعبر عن القيم الأساسية، وقوة إيجابية تستخدم كأداة للتقدم الاجتماعي، ولهذا فإن علم القانون عملية مستمرة تتطلب معالجة ديناميكية متحركة دائمة للرقي به إلى مصاف بقية العلوم في أهدافه ومناهجه.