كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

الحكومة و"حرب الغذاء الراهنة والمستمرة"..

أحمد حسن- فينكس:

السياسة هي الاقتصاد مكثفاً. هذه عبارة ودرس تاريخي يعرفها، ويعرفه، الجميع، وهو أيضاً حاضر في كل زمان ومكان، لكنه اليوم يبدو أكثر الحاحاً وراهنية في ظل الدلائل والوقائع والمؤشرات التي تشير إلى عام صعب وقاس قادم محمول على خلفية تطورات هزتّ العالم كله سياسياً وعسكرياً، وكان انعكاسها الاقتصادي من النوع القاتل الذي طال دولاً في "العالم الأول" لم تكن شعوبها تعرف يوماً مصطلحات وإجراءات مثل تخفيض حصص الغذاء أو تقنين حوامل الطاقة وغيرها، في ظل عجز حكوماتها اللافت عن مواجهة الآثار الفادحة لهذه التطورات، بل إن بعضها كـ"المانيا" مثلاً بدأ بـ"استلاف" قصص الالهاء الشعبي الخاصة بالعالم الثالث وخرج علينا بمسرحية "انقلاب" مفبرك مصيرها الفشل حتى لو كانت وقائعها حقيقة دامغة.
وبكلام أكثر مباشرة يبدو أن كل سياسة غير محمولة على اقتصاد متين هي مجرد توغّل في المجهول، مهما كانت أسبابها ودوافعها الأخرى سامية وموضوعية، ولدينا درس العملاق السوفياتي الذي انهار اقتصادياً قبل أي شيء آخر، وذلك عين ما تحاول واشنطن استعادته في حربها مع موسكو وبكين، ويحاول هؤلاء أيضاً رده إلى ملعبها، لكنه، وهذا ما يعنينا، هو ذاته أيضاً ما تحاوله واشنطن في سورية عبر احتلالها لشمال شرقها وممارسة "بلطجة" سافرة على ثرواتها ومقدّراتها، نفطاً وقمحاً، لاركاعها "تجويعاً" بعد أن فشلت في خطة إركاعها "إرهاباً".
ذلك ما يفتح سبل وسيل "الكلام" حول طرق الاستجابة الحكومية لهذا الأمر آخذين بعين الاعتبار واقع أن مأزقنا يأتي مزدوجاً، سواء من انعكاسات الأزمة العالمية الجديدة، أم من انعكاسات أزمتنا الخاصة والممتدة على مدار العقد الماضي وما مضى من سنوات العقد الحالي، ومع ذلك فإن من الواقعية، والضروري أيضاً، أن نشير إلى أن تجربتنا السورية في المواجهة، وخاصة في الفترة الأخيرة، تحفل بمفارقات عدة ربما كان أهمها ذلك الخلل الحكومي داخلياً، أو على الأقل الخلل في عملية توصيل الرؤية الحكومية في المواجهة للمواطنين، ليس في المضمون فقط بل في الصورة والشكل أيضاً، وهو خلل أوصل الأمور إلى قلة اهتمام -أو لنكن أكثر دقة لامبالاة شعبية وحتى عدم تصديق- لما تقدمه الحكومة من "حلول"، وهذا في جوهره مؤشر خطر للغاية.
ففيما تشير الوقائع، كما سلف، إلى أزمة غذاء عالمية راهنة وطويلة الأمد تقدم الحكومة بسياساتها الاقتصادية وبلاغات "تعديل" الأسعار الدورية – أي "رفعها" حقيقة وكأن اللعب على الكلمات يغير الواقع- على تثقيل الموسم الزراعي القادم، والصناعي أيضاً، بأعباء لا ولن يستطيع الإقلاع في ظلها، مثل رفع سعر السماد أو حوامل الطاقة، وإن كان ذلك يحدث لأسباب خارجة عن يدها ومرتبطة بالخارج وبصعوبات الاستيراد منه أو حتى بعوائقه المقصودة الناجمة عن محاولة الضغط على الموقف السوري الخارجي عبر إشعال الداخل، فالتكامل بين الداخل والخارج كلّ لا ينكره أحد، لكن النتيجة واحدة في الحالتين وهي تراجع القدرة الشرائية لملايين السوريين، ودخول أعداد جديدة منهم، في كل يوم، إلى قائمة العاجزين عن تأمين لقمة عيشهم الضرورية.
والحق فإن الواقع الحالي، والقادم أيضاً، يطرح على الجميع، والحكومة على رأسهم طبعاً بحكم مسؤوليتها، ضرورة تغيير نهج الاقتصاد الخدمي والريعي و"التجاري" أو على الأقل "فرملته" في الفترة القادمة لمصلحة الإنتاج أولاً عبر توجيه كل الموارد و"الدعم" له على حساب الأول، وهذا ما يتطلب رفع بعض العقبات البيروقراطية والقانونية أمام حركة الاستثمار المنتجة في الداخل بكل صورها وقطاعاتها، والعمل السريع على توجيه كل الطاقات لاستعادة دور القطاع العام الذي أثبت أنه الضامن الحقيقي للبلاد، والأهم، التركيز على القطاع الزراعي الذي يشكل الركيزة الأساس للأمن القومي كما أثبتت التجربة ليس لدينا فقط بل في كل دول العالم أيضاً.