كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

أنا وصلاح ويومنا الأول في كلية الحقوق

كتب صفوان زين:

كان ذلك صبيحة يوم خريفي دمشقي جميل من العام ١٩٥٥، توجهتُ وصديقي صلاح ماميش مشياً على الأقدام، ونحن في أبهى حلة، من ساحة النجمة حيث كنا نقيم في بانسيون السيدة "ملكة"، الى كلية الحقوق في بنائها التاريخي المعروف. كنا في قمة السعادة، شابين في مقتبل العمر لم يبلغا العشرين بعد، يمنيان النفس بغزوة أولى ناجحة لهذا العرين الذي طالما حلما بغزوه.
كنت وصلاح منسجمَين ومتناغمَين في المضمون والمحتوى الى أقصى حدود الانسجام والتناغم، غير اننا كنا مختلفَين ومتناقضَين في الشكل والمظهر الى أقصى حدود الاختلاف والتناقض. بالرغم من تماثلنا في الطول إلاّ ان صلاح كان مفرطاً في البدانة في حين أني كنت مفرطاً في النحول، مضت السنون والأعوام لكي يتقارب وزنانا، بعد ان تمكن صلاح بإرادته الحديدية من تخفيض وزنه ٣٠كغ، في حين ان ضعفي امام الطعام أضاف الى وزني ٣٠كغ.
إرادة صلاح الحديدية لم تقف عند هذا الحد، فلقد حقق بواسطتها نصراً مؤزراً لم أتمكن انا من تحقيقه، بقي صلاح عازباً أبدياً، في حين انني استسلمت بعد مقاومة طويلة وعنيدة.
بقي ان أسجل لصلاح وهو من أوائل أصدقائي بانه كان دوماً مثالا للصلاح في سيرتيه الشخصية والوظيفية، احييه بهذه المناسبة وأبثه أشواقي الدائمة.
أعود الى اول يوم لنا في كلية الحقوق، كانت محاضرة في الحقوق الدستورية للدكتور منير العجلاني السياسي والنائب والوزير، وكانت اول سنة دراسية منذ ان استأنفت سورية مسيرتها الديمقراطية بعد فترة الانقطاع التي تسببت بها الانقلابات العسكرية المتتابعة. دخلنا القاعة وجلين ومتهيبين، كانت بالنسبة لنا تجربة جديدة غاية في الإثارة، القاعة ممتلئة بالكامل، الهدوء التام يلف المكان، دخل منير العجلاني القاعة مبتسماً تسبقه شهرته، وقفنا جميعا احتراماً، حيانا بلطف شديد متمنيا لنا عاماً دراسياً منتجاً بعد سنوات من الأعوام الدراسية المضطربة، بدأ بإلقاء أولى محاضراته وكانت عن الدستور الامريكي لعام ١٧٨٩ والدستور الفرنسي لعام١٧٩١ بوصفهما اول دستورَين مكتوبَين عرفتهما البشرية في عصرها الحديث، لكي يَخلُص من محاضرته الى انه "كان لهذين الدستورين اللذين وُصفا بأنهما الولدان الروحيان لأفكار الفلاسفة الأحرار دوي هائل في الدنيا كلها، لأنهما كانا فاتحة عهد جديد: عهد النظام الدستوري الديمقراطي النيابي الحر الذي تطلعت اليه الشعوب بقلوبها وأفكارها وأبصارها وراحت تتسابق الى أبواب جنته المنشودة وتقدم بين يديها ما تشاء من القرابين".
في العام ١٩٥٧ وكنا ما زلنا طلاباً في كلية الحقوق فوجئنا بنبأ إلقاء القبض على منير العجلاني مع مجموعة من السياسيين الآخرين وإحالتهم الى محكمة عسكرية بتهمة التآمر لقلب نظام الحكم بالتواطؤ مع عراق نوري السعيد.
أُصبنا كطلاب لمنير العجلاني بصدمة لم نفِق منها الا وقد جرف المد "الثوري" طبقة كاملة من الأكاديميين والسياسيين.