كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

متلازمة الكمال..

باسل علي الخطيب- فينكس:
لن يبلغ أياً منا الكمال قولاً واحداً، تلك منى مستحيلة، لكن يبقى السعي إلى ذاك الكمال المستحيل هاجس بعضنا....

نعم، هل سبق وسمعتم بمتلازمة السعي إلى الكمال؟...
هذه هي خلاصة أعوامي الخمسين...
هذا مرضي وهذا صليبي الذي احمله، وأعاني كثيراً في حمله....
هذه (الفوبيا) تستهلكتي، تستهلك صحتي وأعصابي وتفكيري ووقتي وجهدي ومالي وعلاقاتي...
لا أرضى عملاً مني أؤديه إلا أن يكون مثالياً، ومثال ذلك في حياتي الكثير والكثير، أنا وعلى مدى قرابة عشرين عاماً رئيس مشاريع المسح الجيوبيئي في المؤسسة العامة للجيولوجيا، يقتضي العمل بعد انتهاء الدراسات الحقلية على الأرض انجاز مجموعة من الخرائط، أقوم بإنجاز اربعة خرائط من أصل ستة خرائط في كل مشروع، إنجاز أي خريطة يحتاج الكثير من الدقة والتركيز والجهد، فكل تفصيل فيها فيه كم كبير من المعلومات المهمة، والخريطة تصير بعد إنجازها مرجعاً أساسياً للكثير من المشاريع الحيوية.....
يحصل أحياناً وانا أنجز أحد الخرائط أن اكتشف خطاً بسبطاً أو صغيرا فيما اكون قد رسمته سابقاً، ورغم علمي ويقيني أن لا أحد سيكتشف هذا الخطأ، إلا أنني أعيد رسم الخريطة من جديد، رغم أنني اكون قد أنجزت معظمها، والأنكى من ذلك، أنني دائماً ما استدل إلى الاخطاء بطريقة أو بأخرى، كأن هناك قوى تتضافر وتتفق وتسوقني إلى اكتشافها....
نعم، هذا هو صليبي الذي اكاد أنوء بحمله، لطالما قلت واعيد وأكرر أن المخدة هي أصعب محكمة على الاطلاق، لا احد يحاكمني كما أحاكم نفسي، وتراني لا أرضى منها إلا الافضل...
و آآآخ، كم يتعبني هذا....
لطالما كان حلولي في المركز الثاني في أي مجال هو فشل بالنسبة لي، هذا طبع حاولت أبداً تغييره ولكنني فشلت....
نعم، رحم الله من قال أن الطبع لطالما غلب التطبع....
أذكر وقد أعتدت دائماً أن أكون الأول على كل طلاب المدرسة في كل صفوفي الدراسية، أنه وعندما تم ايفادي إلى روسيا، و في السنة التحضيرية الاولى وكان عديدنا أكثر من 300 طالب من أكثر من 30 دولة، أنني كنت الأول وبامتياز، لم أكن لأرضى أن يتفوق علي طالب من هذه الدولة أو تلك، كنت اعتبر حلولي في المركز الأول مهمة وطنية مقدسة، وقد أنجزتها، وبقيت فرحتها تشغل حيزاً من القلب حتى تاريخه...
عندما التحقت بالجامعة في مدينة سانت بترسبورغ، وفي الفصل الدراسي الاول، وكنت الوحيد الطالب الأجنبي بين مجموعة كبيرة من الطلاب الروس، والأساتذة يشرحون باللغة الروسية، انني لا أكاد افهم اول كلمة من الجملة التي يقولونها حتى يكونوا قد أنهوا الفقرة، وتنتهي المحاضرة ولم أكتب أي شيء أو افهم شيئاً...
لكن ولأن قناعتي في الحياة أنك أن خفت شيئاً، اقتحمه، فإما أن تربح، أو أن تهزم خوفك، قررت أن أتخطى نفسي، وتحديت وضعي كطالب غريب عن اللغة، لأقضي الساعات يومياً أقرأ لاتمكن من اللغة جيداً، وأقصد اللغة بمفرداتها التخصصية تحديداً، وأتمكن منها بحيث اسمع وأفهم واكتب وكأنها لغتي الأم..... ولم ينته الفصل الاول إلا وكنت أسرع من بعض أقراني الطلاب الروس في الكتابة خلف الأساتذة....
عندما تم إيقافي قبل بضعة أشهر بسبب بعض تلك المقالات إياها، تم إيداعي في سجن عدرا لبضعة أيام، من الأحد حتى الاربعاء، و كان معي في الزنزانة أناس محكومون أو تحت المحاكمة بتهم الارهاب، كان كل ماحولي غريباً ومخيفاً، وانا المعتاد على نمط حياة معين، و أنا المعتاد على مستوى معين لا أرضى دونه، لكني وقد سلمت امري لله، عرفت أن هذه التجربة هي اختبار لذاك المعدن الذي قددت منه، ولم يأخذ الأمر مني وقتاً طويلاًً، يوم الاثنين امتلكت عقول كل من معي في الزنزانة، ويوم الثلاثاء امتلكت قلوبهم، وقد كنت انا ذاك الغريب الغريب يوم الاحد، فإذا بي يوم الثلاثاء مرجعهم وقدوتهم، بل وقائدهم....
كانت عدتي في تلك الرحلة ادبي وعلمي، طبعاً من بعد الاتكال والتسليم لله.... أذكر في يوم اعتقالي من بيتي في طرطوس، وكان ظني أننا متجهون إلى الفرع في طرطوس، لكن الطريق لم يكن كذلك، فسألت إلى أين تآخذوني، فقالوا إلى دمشق، عندها وقد أدركت أنني ولجت امتحاناً عظيماً، فكان أن صليت في مكاني ركعتين، ولم أكد اسلم، حتى أنزل الله على قلبي وروحي سكينة وسلام لم أعهدهما في حياتي، حتى أن دقات قلبي أنخفضت إلى الحد الأدنى....
عندما تم إخلاء سبيلي يوم الأربعاء بعد انقضاء اسبوع على إيقافي، وذلك بعد تدخل جهات عليا، نقلتني سيارة تابعة لجهة حكومية من سجن عدرا إلى مكان ما، حيث كان لي لقاء مع شخصية مهمة تشغل موقعاً رفيعاً في الحكومة، وفي هذا المقام، وفي كل مقام، سواء كان ذلك في الزنزانة أو هذا المكان أو غيره كنت ذاتي ونفسي، لا أقبل إلا أن أكون الأفضل والأحسن، ولايغير المكان أوالمقام اسلوبي أو طبعي أو كنهي....  
ما قلته أعلاه ليس لمجرد الرواية فحسب، ماقلته أعلاه هو تكثيف شديد لتجربة حياتية، أنه لايجب أن يكون في تفكيرنا ثقافة الاستسلام، وان الهزيمة إن حصلت في معركة قد نخوضها أو خضناها - فليس بالضرورة أن نربح كل معاركنا - أن الهزيمة للشجعان فقط، لأن الجبناء لايخوضون المعارك أصلاً، هذا أولاً، أما ثانياً، وهو الأهم، أنه لا يجب أن لاتخوض معاركك أعزلاً، أنا لم أخض أي معركة إلا وكانت عدتي فيها أربعة أسلحة، الاتكال والتسليم لله، الأدب، العلم، ودعوات أبي وأمي، فاحرص قبل أن تخوض معاركك على أن تكون هذه العدة معك.....