كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

المسافة صفر

باسل علي الخطيب- فينكس:

كان ذلك عام 1995، يصرخ جمع من المتطرفين الصهاينة في وجه إسحاق رابين (رئيس وزراء العدو الصهيوني الأسبق)، ينتقدونه على عدم قدرة حكومته على إيقاف العمليات الفدائية الفلسطينية، يستشيط رابين غضباً و يرد عليهم، بماذا تريدوني أن أهددهم، بالموت؟ هم يطلبونه....
قبل شهرين و على مدى اثني عشر يوماً، لاحق الجيش الصهيوني الشهيد عهد التميمي، و قد حاصروه، لم يستسلم، و حتى عندما كان يقع، كان يطلق النار باتجاه الصهاينة....
قبل اثني عشر يوماً من تلك الحادثة، اقترب عهد التميمي من حاجز للقوات الصهيونية في شلعاط، و أطلق النار من مسافة متر واحد على الجنود الصهاينة، قتل أحدهم و جرح آخر جروحاً خطيرة....
هل سمعتم بالمسافة صفر؟....
أن يكون آخر ما يراه الصهاينة و بوضوح فوهة مسدس تنطلق منها رصاصة، تختصر كل ذاك التاريخ، من العذابات و الآلام و المجازر و النكسات و الخيبات و الانتصارات التي عاشها الفلسطينيون....
ولكن أن تتخيلوا حجم الأثر النفسي المرعب الذي تتركه ثقافة المسافة صفر في قلوب و عقول الصهاينة...
بالمناسبة، الشهيد عهد التميمي، قد نفذ عملية ضد حاجز للجيش الصهيوني في معالي أدوميم عندما كان مطارداً، و جرح جنديين صهيونيين....
هل فهمتم ماذا كان يعني إسحاق رابين؟...
لم يكن ذاك الصباح صباحاً عادياً من شهر أيار عام 1998، و إن كانت كل صباحات فلسطين غير عادية، و لا تشبه بعضها البعض، عندما هاجم المستوطن حاييم فرلمان خيري علقم و طعنه حتى الموت، وهو متوجه إلى عمله...
تغيظني جداً عبارة "المستوطنون المتطرفون"، لأنها كأنها تعني أن هناك مستوطنين معتدلين، و هذا يندرج ضمن سياق الحرب على اللاوعي، و يلعبها الكيان الصهيوني ببراعة، و هي براعة ليست ذاتية، إنما يستمدها من مساعدة أغلب الإعلام الأعرابي و الغربي له، كأنهم يقولون لنا أنه من بين مئات آلاف المستوطنين اللطفاء المسالمين هناك بضعة مستوطنين متطرفين فقط، و يقدمون الدليل على ذلك، أن حاييم فرلمان إياه قد تم تقديمه للقضاء في الكيان، و تمت تبرئته لعدم ثبوت الأدلة....
علماً أن حاييم فرلمان كان قد قتل عدا خيري علقم طعناً فلسطينيين آخرين، و حاول قتل سبعة آخرين، أصابهم بجروح.....
بعد أربع سنوات عام 2022، وكان ذلك صباحاً ربيعياً جميلاً، وُلد لأحد أبناء الشهيد خيري علقم طفل، أسموه على اسم جده خيري علقم....
تُرى هل أهلنا يختارون أسماءنا؟ أم أن أسماءنا تختارنا؟...
لطالما شغلني هذا السؤال ماذا يفكر الشخص و هو يمضي، و هو يعرف أنه يمضي إلى موته...
أذكر ذات عدوان صهيوني على سوريا، أنهم كانوا هناك في عرباتهم، رجالات دفاعنا الجوي...
العيون تناظر السماء، كانت وكأنها ترقب ذاك النور إياه، ينادي بعض بعض النور أن يعود إلى كله....
لن يمروا......
نعم، في تلك اللحظة، كانت الشهادة قراراً، وليست قدراً فحسب...
يتناول بعضهم قصاصة ورق، يكتب عليها على عجل، يكتب وبعض العين على الشاشة، وبعضها على الورقة، يكتب وبعض اليد على الزناد، وبعضها يجاهد ليخط الكلمات.....
تتبعثر الكلمات على الأسطر، هي ليست إلا قصاصة، ولكنها كأنها وصية، لاتستطيع أن تقرأ من تلك الخربشات إلا كلمة واحدة.......
لا تصالح......
هاهو صاروخ، هاهو الثاني، هاهو الثالث....
تتوالى الصواريخ، هذه رشفة من مجموعة صواريخ، الرجال الرجال في اماكنهم...
قل يا أيها الكافرون، لا أعبد ماتعبدون، ولا أنتم عابدون ما أعبد.....
صواريخ الصهاينة تتهاوى، ولكن عددها كبير...
أبا القتل تهددني يا ابن الطلقاء؟..إن الموت لنا عادة، وكرامتنا من الله الشهادة.....
يفلت أحد الصواريخ، وكأنه يتجه إلى عربتهم، ليست إلا ثواني ويصيب العربة، تتقد العيون أكثر، وتكبر الابتسامة على الشفاه، ينظر الكل إلى الكل، السلام عليكم،... السلام عليكم، ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم.....
يصيب الصاروخ العربة....
إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم أن لهم الجنة، يقتلون في سبيل الله، فيقتلون ويقتلون، وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن، ومن أوفى ببيع الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به ، وذاك هو الفوز العظيم.......
ذاك الدم الفلسطيني الجميل، لايقل قدسية عن هذا الدم السوري الجميل....
العدو واحد، والقضية واحدة....
كان ذلك يوم الجمعة1/26/ 2023، استقبل فخري علقم القبلة في المسجد الأقصى مؤدياً صلاة الجمعة، استقل سيارته مسافة قصيرة، نزل منها على بعد مئة متر من كنيس صهيوني.....
كان بحوزته مسدس و بضعة أمشاط من الرصاص، كل من قتلهم من المستوطنين شاهدوا فوهة المسدس...
أتراها ثقافة المسافة صفر، صارت الأسلوب الجديد لهذا الجيل الجديد من المقاومين؟...
النتيجة ثمانية قتلى أو أكثر، و عشرة جرحى أو أكثر، لم تخطئ ولا رصاصة.
تُرى من أي طينة هؤلاء المقاومين؟...
هذا جيل جديد من المقاومين، لم يعرف كل الانكسارات و الهزائم السابقة، و لم يشهد أياً من الانتفاضات، ليس عنده فكرة كبيرة عن كل تلك التنظيمات الفلسطينية المختلفة و انحراف بوصلة أغلبها و اقتتالها الداخلي...
جيل لم يعش إلا عصر الانتصارات، انتصار تموز 2006، انتصار سوريا في حربها على ذاك الإرهاب، الذي أراد أن يلتهم كل ذاك الشرق، هل من صدفة أنهم يرفعون ذاك العلم الجميل ذو النجمتين الخضراوين في جنازات شهدائهم؟..
ألم احدثكم سابقاً عن تنظيم اسود العرين؟...
هل تعرفون أن هذا التنظيم قد نشأ في حي اسمه حي الياسمين في جنين؟...
هل هذه صدفة؟...
هذا جيل من دون عقد، من دون أفكار مسبقة تكبله و تحبطه، جيل بسيط و لكنه ذكي، عفوي لكنه مشبع بكل ما له علاقة بهذا التراب، جيل يحب الحياة و يجيدها و يمارسها بكل اندفاع، جيل لا يبحث عن الموت، لكنه لا يهابه إن دنا....
حتى نعرف ما أثر ثقافة المسافة صفر على الصهاينة، لكم أن تدققوا في وجهي بنيامين نتنياهو و و إيتامار بن غافير، تلك النظرات كانت تشرح كل شيء، القضية صارت أكبر من مجرد تهديد أمني، الوجوه و النظرات الشاحبة تعكس تهديداً وجودياً صار الصهاينة يستشعرونه جدياً....
لخص الشهيد خيري علقم كل القصة في وصيته، هذه الحرب لا نهاية لها، لم يخطر على بالي عندما قرات وصيته، إلا آخر جملة في كتاب (حافظ الأسد و الصراع في الشرق الأوسط) لباتريك سيل، عندما قال سيل عن لسان القائد الخالد رحمه اللّه "و يستمر الصراع......."...
و تذكروا
نحن الوحيدون الذين لم يوقعوا...
و لن نوقع...