كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

ماركو بولو في الصين

مروان حبش- فينكس

في عام 1295 م، وكان عصر البندقية الذهبي، أقبل على المدينة رجلان طاعنان في السن ومعهما رجل في الخمسين من عمره، وقد أنهكهم التعب وأضناهم السفر، يحملون متاعهم على ظهورهم، ويلبسون أسمالاً بالية، وتعلو وجوههم وثيابهم الغبار، ثم طلبوا إلى أهل المدينة أن يأذنوا لهم لدخول موطنهم الأصلي الذي غادروه كما زعموا منذ ستة وعشرين عاماً. فلما تردد مواطنوهم في الأذن دخلوا المدينة على الرغم منهم. وقالوا إنهم جابوا بحاراً مفعمة بالأخطار، وصعدوا فوق جبال وهضاب شامخة، واجتازوا صحاري ملأى باللصوص وقطاع الطرق، واخترقوا السور العظيم أربع مرات، وأقاموا عشرين عاماً في كاتاي (اسم بلاد الصين عند الإنجليز) وخدموا أعظم ملك في العالم كله. وأخذوا يحدثون مواطنيهم عن امبراطورية أوسع رقعة، ومدن أكثر سكاناً، وحاكم أعظم ثروة من كل ما عرفته قارة أوربا، وعن حجارة تتخذ للتدفئة، وورق يتعامل به الناس بدل الذهب، وعن بندق الواحدة منه أكبر من رأس الإنسان، وعن أمم تقف بكارة الفتيات فيها حجر عثرة في سبيل الزواج، وعن أمم غيرها يقدم المضيف فيها لضيوفه زوجاته وبناته ليستمتعوا بهن وهن راضيات.
لم يجد هؤلاء القادمون مّنْ يصدقهم من أهل المدينة، وأطلقوا على أصغر الثلاثة وأكثرهم ثرثرة لقب "ماركو الملايين"(1) لأن ما كان يرويه لهم من القصص كان مملوءً بروايات كثيرة عجيبة.
لم يبتئس ماركو وأبوه وعمه من هذا المصير، بل رضوا به مسرورين، لأنهم جاءوا معهم بكثير من الأحجار الكريمة من حاضرة البلاد القاصية، وأتت لهم بثروة رفعت من منزلتهم في مدينتهم. ولما دارت رحى الحرب بين البندقية وجنوى في عام 1298م عقد لواء إحدى السفن لماركو، فلما استولى الجنويين على هذه السفينة وأُلقي ماركو في أحد السجون حيث مكث عاماً كاملاً، أخذ يُسلي نفسه بأن يملي على أحد الكتبة (روستيشيلو دا بيزا) أشهر كتاب في الأسفار في آداب العالم، وقد قصّ فيه بأسلوب ساخر سلس خال من التكلف والتعقيد كيف غادر هو وأبوه نيقولو وعمه مافيو مدينة عكا ولمَّا يتجاوز السابعة عشرة من عمره، وكيف تسلقوا جبال لبنان واجتازوا أرض الجزيرة إلى الخليج العربي، ثم اخترقوا بلاد فارس وخراسان وبلخ حتى وصلوا إلى هضبة البامير في طاجكستان، ثم انضموا إلى بعض القوافل وساروا معها سيراً بطيئاً إلى كاشغر في تركستان وخوتان في الصين، ثم اجتازوا صحراء غوبى شمالي الصين إلى تنجوت، ثم اخترقوا السور العظيم إلى العاصمة تشنجدو حيث استقبلهم الخان الأكبر قوبلاي خان بوصفهم "رسل أذلاء من الغرب الناشئ"(2).
لقد أتقن ماركو اللغة الصينية، وعرف كيف فتح المغول (أي البواسل) بقيادة جنكيز خان وخلفاؤه، وخاصة قوبلاي خان بلاد الصين، بعد أن أصابت بلادهم الممتدة إزاء حدود الصين الشمالية الغربية من جفاف قد أحالها صحراء جدباء عاجزة عن الوفاء بحاجة سكانها الأقوياء فاندفعوا إلى شن الغارات لامتلاك بلاد أخصب من بلادهم وأوفر منها أرزاقاً. وكان الصينيون قد أهملوا فنون الحرب ووجهوا همهم كله عدة قرون إلى الثقافة، فلم يثبتوا أمام الغزاة. وعمل الخان الأكبر قوبلاي على ادماج المغول الغزاة في حضارة الصين وما لبثوا أن استحالوا بفضلها أمة صينية. وقد كتب ماركو عن هذا الخان العظيم قائلاً: (كان لكرمه العظيم المدهش الذي يعامل به الفقراء، بتوزيع ملء عشرين ألف وعاء من الأرز والذرة، الأثر الحسن في نفوس الناس جميعاً فأحبوه وأجلوه).
ولم يكونوا "ماركو ووالده وعمه" يظنون أنهم سيقيمون في الصين أكثر من عام أو عامين، ولكنهم وجدوا في تلك البلاد من الأعمال المجزية والفرص التجارية المربحة تحت حكم الخان الأكبر ما حملهم على البقاء فيها ما يقارب من خمسة وعشرين عاماً. وأثرى ماركو بشكل خاص وارتقى في مناصب الدولة حتى عُيِّن حاكماً على مدينة هانغتشو وهي واحدة من العواصم السبع القديمة في الصين.
يصف ماركو في كتابه (رحلات ماركو بولو) المدينة وصف المعجب بها الحافظ لعهدها، فيقول: (إنها أرقى من بلاد أوربا بأجمعها في جمال مبانيها وجسورها وفي عدد مستشفياتها العامة ورشاقة بيوتها ذات الحدائق، وكثرة ما فيها من وسائل المتعة واللهو، وجمال سراريها وسحرهن، ورقة أهلها وحسن أخلاقهم). ويتحدث عن الأمن الذي يسود في المدينة، وعن النظام فيها. وعن طرقاتها التي تتسع لمرور العربات وقنواتها العريضة التي تتسع لمرور السفن، وعن جسورها العالية الممتدة فوق القنوات الكبرى بحيث تستطيع السفن من أن تمر تحتها مبسوطة الشراع. وعن الميادين الرئيسية العشرة في داخل المدينة وأسواقها العامة. ويقول ماركو بأن قناة كبيرة تجري في اتجاه مواز للشارع الرئيسي أقيمت على شواطئها مخازن واسعة يأوي إليها التجار القادمون من الهند وغيرها من البلاد، ومعهم بضائعهم ومتاعهم. ويتحدث عن شوارع المدينة المرصوفة كلها بالحجارة وفي الكثير منها حمامات باردة، وحمامات ساخنة يشرف عليها خادمات وخدم، ومن عادة الأهلين كلهم أن يستحموا في كل يوم وخاصة قبل تناول وجبات الطعام.
ويصف النساء بأنهن ذوات جمال بارع، ويُعَوَّدن من صغرهن الرقة والنحافة، وليس في وسع من لم يشهد هؤلاء النسوة أن يتصور ما يتحلين به حرير وجواهر.
وخصصت في بعض شوارع من المدينة مساكن للأطباء والمنجمون، وفي شوارع أخرى أحياء للعاهرات وهن يبلغن من الكثرة حدَّاً كبيراً، وهؤلاء النسوة يلبسن الملابس الجميلة الزاهية، ويتعطرن، ويسكنَّ في بيوت فاخرة الأثاث، وتقوم على خدمتهن كثيرات من الخادمات.
ويقول ماركو إنه شاهد في عاصمة قوبلاي خان من العاهرات ما لا يحصى عددهن وما لا يتصور العقل جمالهن، وهؤلاء البغايا مرخص لهن بمزاولة مهنتهن، وتنظم الدولة أمورهن وتراقبهن من الوجهة الطبية، وتُقدم أجملهن، من غير أجر، إلى أعضاء السفارات الأجنبية.
وقد أعجب ماركو بمدينة بكين (خان بالق) فهو إن تحدث عنها عجزت ملايينه عن وصف ثروتها وتعداد عامرها، وكان يدخلها في كل يوم ألف حمل من الحرير الخام لتُصنع ملابس لأهلها. وقد أُعجب بتنظيم غرف قصر الخان الأكبر وبنوافذها لبراقة الدقيقة الشفافة، وبما يغطي سقفها من قرميد مختلف الألوان، ويقول: (إنه لم ير في حياته مدينة في مثل غناها، ولا ملكاً في عظمة ملكها).
وبعد أن أقام ماركو هو وأبوه وعمه عشرين سنة في بلاد الصين، اغتنموا فرصة قيامهم بمهمة إلى بلاد الفرس، أوفدهم بها الخان الأكبر، فعادوا إلى بلادهم بأقل النفقات، وبأقل ما يمكن أن يتعرضوا له من الأخطار، وبعث معهم الخان الأكبر برسالة إلى البابا. وقضوا، ثلاث سنين، في طوافهم بحراً حول شبه جزيرة الملايو إلى الهند وفارس، وفي رحلتهم البرية إلى طرابزون على البحر الأسود، ومنها في رحلة برية إلى البندقية. ولما وصلوا عرفوا أن الخان الأكبر والبابا قد توفيا.
عمَّر ماركو حتى بلغ السبعين من عمره، فلما حضرته الوفاة طلب إليه أصدقاؤه أن يُنجي نفسه من العذاب في الدار الآخرة بمحو ما ورد في كتابه من العبارات الواضحة البطلان، ولكنه أفحمهم برده عليهم (إني لم أذكر في كتابي نصف ما شاهدته). ولم يمض على وفاته إلا وقت قصير حتى أصبح من العادات المألوفة في حفلات البندقية الساخرة أن يرتدي شخص ثياب المهرجين ليُسِر الناس في تلك الاحتفالات بما ينطق به من المبالغات غير المعقولة، وكان يُطلق على هذا المهرج الماجن اسم (ماركو الملايين).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)بولو بالإيطالية تعني الملايين
(2)لم يرتد أحدٌ من الرحالة بعد ماركو أقاليم آسيا الوسطى التي وصفها إلا في عام 1838م.