كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

المواطن والدولة- ح2

مروان حبش- فينكس

 لكي يقوم الدستور بوظيفته كمعيار قانوني أعلى في المجتمع، يجب أن يضع الأساس لنظام قانوني يحقق المواطنة بمفاهيمها وقيمها. ولكي يلعب دوراً فعالاً في تحقيق إرادة الشعب يجب أن يكون سعيه الدائب والدؤوب ترسيخ العدالة والحرية، والديمقراطية، وتلافي كل ما يهدد ترسيخها أو يعمل على تهميشها، ومحاربة الأنانية، والتعسف، واللاعقلانية. كما يجب أن يقوم بوظيفة المعيار القانوني الأعلى في الدولة، ويتصف بالديمومة ويحتوي على آليات تحفظ حرية الفرد في المجتمع، وتجسد روحه جميع المؤسسات الاجتماعية والسياسية. ويجب أن يُوَلِدَ إحساساً بالعدالة عند الشعب، من خلال مؤسسات، ويخلق الشروط القانونية والسياسية الضرورية لحماية سيادة هذه المؤسسات في الدولة أي (سلطة القانون لا سلطة الفرد أو المجموعة).
أي أن الدستور يجب أن يثبت دولة المواطنة، ويعمق مفهوم المواطنة كبديل للمفاهيم الانقسامية، أي دولة لا يحكمها إلاَّ القانون، وأنْ يؤسس لدولة حيادية بعدم سن أي قانون يؤسس ديناً للدولة، وحظر الحد من حرية ممارسة المواطنين من شعائر أيما دين أو أيديولوجية. وأن يشيَّد دولة تبتعد عن الطغيان وذلك بالحد من سلطتها، وامتناعها عن الحد من حريات المواطنين بطرق قانونية أو تعسفية. وعليها أن تقيم في جهازها السياسي آلية تساعد على جمع وتوحيد قوة الشعب الواقعية، وتؤهل المواطن ليدافع عن نفسه ضد الدولة، وهي تحفظ، أيضاً، سلامة وحكم القانون.
إن القانون هو المحرك الأول للحياة الاجتماعية، وهو الواسطة الأولية في أنسنة وتحضر الإنسان، ويتصدر كل الضوابط الاجتماعية الأخرى ويكون كل الأفراد (ذكوراً وإناثاً) أمامه سواء، ويتبع أفراد هذا المجتمع في سلوكهم النسق المتقدم لقواعد التحليل والاختيار، ويلجئون إلى أسلوب التوافق، وينبذون العنف في حل اختلافاتهم وصراعاتهم، وهو القوة الأولى في تربية الشخصية الاجتماعية والسياسية. وعند أفلاطون: (الإنسان الذي يرى أن القانون يجب أن يحكم، هو نفسه الإنسان الذي يذهب إلى أن الله والعقل فقط، يجب أن يحكما، وهو العقل الخالي من الانفعالات). وأن (قوانين الدولة هي أساس الحرية التي يتمتع بها المواطنون، ونحن جميعاً عبيدٌ لها لكي نكون أحراراً)، عند شيشرون. وتتحقق ثقافة المشاركة كثقافة خاصة بالنسق الاجتماعي المتقدم حينما يسود القانون، وتتحمل سلطات الدولة مسؤوليتها في احترامه والالتزام بأحكامه.
إن السلطة مسؤولة عن ضرورة تنمية السياسي، والذكاء السياسي، والمسؤولية السياسية أي (التربية السياسية)، مقترنة بالتربية العقلية والأخلاقية، وتدريب قوى العقل على التفكير السليم والحكم السليم في أمور الحياة العملية والنظرية، وأن تكون الغاية هي تكوين شخصية مستقلة تشعر من ذاتها وتفكر من ذاتها، وتفتح نوافذ العقل، وتحقق إنسانية الإنسان، الذي يعرف حقوقه وواجباته، وتصون الشعب المتنور الذي يعرف نفسه ويعرف ما يريد.
والسلطة التي تمنع العمل السياسي عن مواطنيها هي سلطة لا تبالي بمستقبل شعبها، ولا تبالي بالتزاماته التاريخية ومصيره، وبذلك لا تكون ثمرة عقد اجتماعي، ولا عقد سياسي، وتبتلع الدولة والمجتمع، وتدخل في مأزق التناقض بين التطور الموضوعي والعفوي للمجتمع وبين بنيتها المتسلطة، وهذا التناقض يؤدي إلى بروز عدة ظواهر، منها: 1- استخدام أعلى درجات القمع المادي والروحي.. 2- البحث عن العصبيات التقليدية وإيقاظها لتستند إليها. 3- إنهاء العمل السياسي والمجتمع المدني. 4- الاعتماد على الحماية الخارجية. 5- فشل محاولات التنمية وعدم تحقيق الحد الأدنى للتقدم. 6- تركيز كل جهودها للاستمرار في الحكم.
إنها سلطة تؤسس لحكم استبدادي، يوقف التاريخ ليجعل من ذاته بداية مطلقة جديدة له، ثم يُلحق التاريخ العام بتاريخه الخاص. ويقف حجر عثرة في سبيل تطور المجتمع وتقدمه، ويبقيه مسحوقاً داخل دائرة الكبت والخوف والحرمان والتردد والإهمال. ويمنع كل ممارسة حرة، و أي مشاركة في أنشطة المجتمع خشية تفجير طاقات المواطن، وتحرير مكوناته الذهنية. وينشر ثقافة الخضوع، أي ثقافة النسق الاجتماعي المتخلف، وسلوك أفراده الانفعالي وسيطرة العنف، والتحجر العقائدي، والعجز عن الاحتكام إلى العقل والمنطق.
إن الاستبداد هو الفكر البدائي في السياسة بثوابته وأهدافه وآلياته من عبادة الشخصية، ورفض الواقع، وفرض الرأي الواحد بالعنف، وسيطرة البطانة.
إن حكم الاستبداد يعني سيطرة هيكل يقوم بطقوس العبادة وبحكم الشخص المؤله... وبمصادرة الذكاء، ومحاصرة المخيلة، ومنع الفكر المستقل، ومصادرة الفضيلة، وتحريم المحاسبة، وإفساد وتعفين كل القيم والمؤسسات الضرورية لأي مجتمع إنساني، وتنمية التخلف والانكفاء، واصطفاء الذل كتصرف وكموقف وكوسيلة للعيش وكقيمة، والتعرض لقيم الكرامة والسلم وإرادة المشاركة.
إنه سيطرة جهاز كلي الوجود، مسلح بقيود قانونية وشرعية تكون فيه سيادة المواطن عبارة عن منحة أكثر منها حقاً قانونياً.
إن تجربة الحياة تؤكد بأن المواطنة والعدالة لا تمران بالاستبداد إطلاقاً. لأن القانون في الدولة الاستبدادية موضوع من قبل من ليس لهم الحق في وضعه، وخارج على القانون الدولي وروح العصر، وهو تشريع وتطبيع للاستبداد، ومفروض للتضييق على الحقوق والحريات، ومطبوع بعقلية الزجر والترهيب، ويجعل من المواطنة شيئاً تافهاً، وتنفذه سلطة فاقدة المصداقية والاستقلالية.
كما تؤكد تجربة الحياة بأن المجتمع الديمقراطي ومؤسساته، يبقى شرطاً لتنشيط منظمات المجتمع المدني في مختلف مجالات الحياة وحقولها، وجعلها قادرة على مقاومة ممارسات نفوذ السلطة الاستبدادية.
وتؤكد بأن الدولة والمجتمع المدني متساندان ومتعاضدان ولا تناقض بينهما، وهي (الدولة) تقوى وتتعمق وتصبح أكثر استقراراً به، لأنه يعمل على تحسين أداء السلطة، وبتجمعاته يقدم منفذاً للتعبير الحر عن الأفكار السياسية، وتحقيق مشروع سياسي يجسد المساواة والعدالة والحرية والكرامة والسلم المجتمعي، وسيادة هذه القيم في المجتمع لتكون متحكمة في نواصيه. وتكون منفذاً للتغيير بعودة السياسة إلى الشعب بكل ألوان طيفه، وبناء المجتمع على السياسة، وتكريس دولة المواطنة.