كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

المواطنة والدولة.. ح (1)

مروان حبش- فينكس

لا يجوز الامتناع عن استجواب التاريخ عن مآسيه، ولا يجوز لأي كان مصادرة أحلام شعب نحو مستقبل يتطلع إليه، أو أن يقلل الحاضر من أهميته، لأن أي انتساب للزمن الماضي فقد مبرراته التاريخية، ولأننا نعيش في تطور لم يعد فيه لأساليب الماضي في الحكم، وجود كممارسة.
إن الشعب هو اليوم من الوعي بحيث لا يسمح أن يُغلب، لأن مقاومته ستكون، حتماً، أكثر فعالية، ولأن نضاله من أجل الحرية والكرامة هما وجه واحد لحقيقة المواطنة، ولإيجاد تعريف لهوية وطنية جديدة، وهما من السمات الكبرى للعصر. كما أن التغيير المنشود أصبح وعداً غير محدد بالمواطنة، ويشكل امتداداً لا ينتهي لمستقبل أفضل. وعداً متميزاً وملتزماً في آن واحد: متميز لأن الديمقراطية السياسية هي مرحلة تاريخية في التنظيم الاجتماعي، وملتزم لأن الحرية هي الشرط التمهيدي للمواطنة، وهي حرية يمتلكها ويستحقها كل كائن إنساني، لأته كائن إنساني تكَّون في ضميره أن الحرية حقٌ طبيعي لا يجوز انتقاصها أو النيل منها، ولا يمكنه أن يعيش ككائن إنساني إن لم يتمتع بها في مسيرة حياته اليومية، وكل محاولة لتجريد الإنسان منها هي محاولة حرمانه من إنسانيته، وهي الشرط الأساسي للكرامة الإنسانية، لأنها تعني التحرر من العبودية، ومن التشيؤ، أي أن الإنسان يفكر ويشعر ويقوم بأفعاله من إرادته لا بإرادة شخص آخر أو سلطة خارجية، ولأنها تعني أن الإنسان فاعل لا وسيلة، يعيش كعقل وبعقله يدير أموره، ويعبر عن نفسه في المكان، وعن التحرر من العوز. ولا بد لحالة الإنسان الحر لكي تدوم وتتنامى من تضمينها حرية إيجابية خلاَّقة مظهرها الأول حرية المواطن السياسية والتي هي حقه في المساهمة في القرار السياسي.
إن تحقيق الحرية الفردية يتطلب شروطاً، منها: بناء الدولة على القانون، وإن ركن القانون هو الدستور. والقانون يجب أن يكون عادلاً، وتتمثل عدالته في مدى تجسيده إرادة الشعب العامة، أي مصالحه المشتركة من حرية وضمان المساواة، والعدالة اجتماعية، ومن سعي وراء السعادة.
وبما أن الشعب هو المواطنون الذين يمثلون المجتمع بأجمعه، أي الأفراد الذين يساهمون عملياً في حياة الدولة، و أن إرادته هي السلطة العليا في دولة المواطنة، وعليه أن يكتشف ويعبر عن إرادته كشعب، أي كجماعة إنسانية متحدة بأهدافها ورغباتها وبطريقة تحقق هذه الأهداف والرغبات، وبقدرته، رغم الاختلاف، بمؤهلاته النفسية، والأخلاقية، والعقلية، والاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، أن يتصور، ويوافق، وينفذ القانون، ويدرك أن حقوقه الجوهرية كجماعة إنسانية، هي المصالح الواقية الضرورية لازدهاره كبشر. وأن هذه المصالح تصونها وتحميها الدولة.
إن الدولة هي مجموعة من الأفراد يمارسون نشاطهم على إقليم جغرافي محدد، ويخضعون لنظام سياسي معين يتولى شؤونها، وتشرف على أنشطة سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية، تهدف إلى تقدمها وازدهارها، وتحسين مستوى حياة أفرادها، وأساسها الوحيد هو الأساس العقلي للإرادة العامة، حسب (روسو)، وهي اتحاد قانوني يتكون بإرادة وقرار الشعب الذي يضع دستوراً، وعلى أساس هذا الدستور يتعاقد الناس على الاندماج في كيان سياسي. وبهذا تكون الدولة تجسيداً للشعب، ويكون المواطن عنصرها الأساسي. وهي (الدولة) حقيقة المجتمع المدني، والشكل الأعلى لتحقيق الفكرة أو المثال (هيغل)، وهي مؤسسة تسهر على تسيير المجتمع وإدارة شؤونه، وغايتها تحقيق السلم (هوبز)، والحرية (سبينوزا)، وتجسيد العقل (هيغل).
ولابد من التأكيد بأن الدولة ليست توتراً بين قوى متضادة (قوة الحكومة وقوة الشعب) بل هي وحدة عضوية، وجماعة إنسانية. لذا فإن السلطة التي تدير شؤونها يجب أن تنبثق من إرادة الشعب، وأن تسير بفعاليتها من الأسفل نحو الأعلى، الحقوق غير القابلة للنزع: الحياة- التملك وحق الجميع في الوصول إلى الثروة- التعبير.... وعلى الدولة أن تعمل على تحصين روح المواطنة ونشرها في المجتمع، سبيلاً لتأسيس وضمان سعادة شاملة ومتساوية بين الجميع.
وكما أن غاية التجمع السياسي هو التعاون لتحقيق الحرية الفردية، يكون هدف الدولة هو تكريس هذه الحرية أي أن يحكم الشعب ذاته، وأن حرية الفرد أمر سابق على قيام الدولة، وعلى الدستور أن يقوم بدور الكاشف عن حقوقه الأصيلة وهذا ما يجب أن تنطلق منه، وأن ترسخه كل مواد الدستور.
إن الدستور هو السلطة العليا في الدولة، ولكي يقوم بوظيفته هذه، في قوننة جميع شؤون الدولة، يجب أن يتضمن على البنية التي تحمي وحدة حكم القانون وسياسته. والدولة الديمقراطية جوهرياً، دولة قانونية، يحكمها القانون، لا الإرادة الإنسانية. وتكون مصداقيته (الدستور) بقدر ما يحمي ويساعد على نشر حقوق المواطنين الأساسية، ومبرر وجوده حماية هذه الحقوق. ولكي يكون واسطة فعالة في التقدم الاجتماعي يجب أن يحتوي على آلية تساعد على انبثاق السلطة السياسية من إرادة الشعب الحيَّة أو التاريخية ومن صميم واقعهم الوجودي. ويكون احترامه شرطاً لثبات الثقة في النظام القانوني.
إن الدستور كأداة للتقدم الاجتماعي، يجب أن تتحقق فيه عدة شروط أهمها: - أن يكون معياراً للقانون الأعلى الذي يفرض منهجاً يعتمد عليه المجتمع في تشريع قوانينه. – أن تكون مواده التي تشكل وحدته هي المقياس الأسمى الذي يحدد نظام وكيفية إدارة حياة الشعب. – أن يكون هو السلطة العليا في الدولة التي يعتمد عليها الشعب في تعريف معنى عدالة وخير الأحكام عامة. – أن يضع الأساس لنظام قانوني عادل يحوي في جوفه شروط المساواة الاجتماعية، - أن يكون أساساً لجماعة إنسانية. – أن يؤكد تمتع المواطن بمرتبة الكائن الإنساني.
ولكي يلعب الدستور دوراً فعالاً في التقدم الاجتماعي، يجب أن ينظر إليه من جميع فئات الشعب كقانون له صفة الديمومة. ومن مميزاته خدمة الأجيال القادمة، كما يجب أن يتضمن، دوماً، آليات وإجراءات عملية تمنع إساءة استعمال السلطة السياسية عامة، أو الإساءة إلى العدالة، بخاصة. وبذلك يبقى الدستور بمواده، هو المقياس والشرط الضروري الذي يجب توفره في عملية سن قوانين الدولة. وهو المعبر عن إرادة الشعب الكلية، لا يجوز انتهاكه لأن له صفة عقدية، وهو فوق نزعات وآراء ومصالح الأفراد.
والدستور ليس، فقط، واسطة تقدم اجتماعي، بل هو، أيضاً، نظام فيه تتحقق وتتبلور مصالح الشعب تحت شروط الحرية والعدالة والأمن، و في عملية تحقيق أهدافهم كأفراد وكأعضاء مسؤولين في المجتمع، و يحمي حقوقهم التي لا يمكن الاستغناء عنها في تقدمهم الإنساني (حق الضمير، الملكية، الاعتقاد، الاختيار، السعي وراء السعادة وفقاً لرغبة إرادة الفرد، التجمع، التعبير عن الرأي، التنقل، التصويت، السلامة، الثقافة....)، وهذه الحقوق هي امتياز مطلق لجميع الكائنات البشرية، وكل إنسان يمتلكها بقدر ما يستطيع ممارسة الحرية أو بمقدار ما يستطيع القيام بواجباته كمواطن مسؤول. ويؤكد الدستور أن لا سيادة لفرد ولا لقلةٍ، على الشعب، بل السيطرة لأحكام القانون والمساواة أمامه. وأن الشعب هو مصدر السلطات.
يحقق الدستور مبدأ فصل السلطات بهدف منع احتمال إساءة استعمال أو اغتصاب سلطة الدولة من قبل شخص أو مجموعة من الأشخاص أو حزب ما... ومنع احتمال تطور الحزبية أو الطائفية أو المجموعات الاقتصادية أو السياسية أو الدينية أو الأيديولوجية لمرحلة الاستحواذ على الدولة.
ويهدف فصل السلطات تأسيس نظام من الضبط والموازنات، وتشكل كل سلطة نوعاً من الوازع الأخلاقي للسلطة الأخرى، سلطات مستقلة، ولكنها ليست منفصلة، وتشكل نوعاً من الوحدة المتأصلة في الدستور، أي في إرادة الشعب.
ويؤسس الدستور منظومة من الحقوق والحريات العامة مصانة قضائياً ومجتمعياً، من خلال تنمية قدرة الرأي العام ومنظمات المجتمع المدني على الدفاع عنها، منها: - تداول السلطة سلمياً بشكل دوري، وفق انتخابات دورية عامة وحرة ونزيهة تحت إشراف قضائي، وبشفافية عالية تحد من الفساد والإفساد والتظليل. وترسيخ الحقوق الاجتماعية والاقتصادية كشرط لممارسة مبدأ المواطنة على أرض الواقع، وانتماء المواطن وولاؤه لوطنه وتفاعله الإيجابي مع بقية المواطنين. المساواة بين المواطنين كقيمة اجتماعية وممارسة سلوكية يعبر أداؤها عن نضج ثقافي وإدراك حقيقي لفضيلة معاملة جميع المواطنين على قدم المساواة دون تمييز، المواطنة كتجسيد لنوع من الشعب يتكون من مواطنين يحترم كل منهم الفرد الآخر، ويتحلون بالتسامح حيال التنوع الذي يزخر به المجتمع. - تجسيد المواطنة واقعياً وقانونياً، من خلال معاملة كل الذين يُعتبرون أعضاءً في المجتمع على قدم المساواة، وحماية كرامتهم وحريتهم واستقلالهم واحترامهم، وضمان منع أي تعديات على حقوقهم المدنية والسياسية، وضمان قيام الشروط الاجتماعية والاقتصادية لتحقيق العدالة والإنصاف، وأن يُمَكِّن الأفراد من المشاركة بفاعلية في اتخاذ القرارات التي تؤثر على حياتهم، وأن يمكنهم من المشاركة الفاعلة في عملية اتخاذ القرارات السياسية في المجتمعات التي ينتسبون إليها.
وبذلك تتلخص غاية الدستور، بأن الحكمة التشريعية هي الحاكم الأعلى في تقرير مسيرة الدولة المستقبلية وإدارتها، وفي تنظيم حياة الشعب، بـترسيخ قيمة الحرية والحريات العامة والفردية لأنها محرك هام لذلك الصراع الأبدي، وقوة دافعة للإنسان والمجتمع بعيداً عن حيازة الدولة. وفي إقامة المجتمع المدني حيث يعيش الناس كأفراد في جماعة إنسانية متحققة ذاتياً ولها خياراتها الواعية، في نظام ديمقراطي تعددي.