كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

من قضايا المواطن.. قضية الديمقراطية 2

مقاربة نحو تحديد مفهوم الديمقراطية
مروان حبش- فينكس
الديمقراطية كشكل من أشكال الحكم، قديمة. تركها لنا الفكر السياسي الإغريقي بوصفها العبارة التي تدل على حكم العديد أو الأكثرية أو الأغلبية. وهي تعني، حسب ما تنبئنا دراسة أصول الكلمة: حكم الشعب مقابل حكم الفرد أو مجموعة من الأفراد. ورغم مرور العديد من القرون وورود الكثير من الآراء حولها، فإن المعنى الوصفي العام للعبارة لم يتغير، وإن كانت شحنتها التقويمية قد تغيرت مع تغير الأزمان وتبدل المعتقدات، وتجاوباً مع مدى التأييد للحكم الشعبي مقابل أنظمة الحكم الأخرى، مع التسليم بأن ما قد تغير هو الطرق والأساليب التي تتم ممارسة الديمقراطية من خلالها، هذه الطرق والأساليب التي قد تكون أوسع أو أضيق في لحظة بعينها.
وإلى جانب النظر إلى كلمة الديمقراطية بمعناها الأخلاقي يجب النظر إليها بمعناها الحقوقي- المؤسساتي التي يجب مراعاتها لضمان توزيع السلطة السياسية توزيعاً ناجحاً، وعلى المساواة المثالية التي يتعين على الحكم الديمقراطي أن يتوخاها ويتطلع إليها، أي المساواة في حق التمتع بالحرية.
لقد نتج مفهوم الديمقراطية من تلازم الحاجة والضرورة، الحاجة إلى فضاء يتأكد فيه الإنسان ككائن معترف به داخل الجماعة التي ينتمي إليها، ثم ليقول ما هو خاص به كي يعكس تميزه عنها، من دون أن يعني هذا التميز اعتزالاً أو نأياً سلبياً عنها. والضرورة إلى أمرٍ لا يتيسر للحاجة أنْ تتحقق من دونه، وهو وجوب وجود الديمقراطية كقيمة ينهض عليها التاريخ والعمران والحرية والإبداع. والقادرة على تحرير قوى النقد والخيال والحكم المستقل لدى الأفراد، وتضمن لهم التفتح داخل جماعة متضامنة وليس على حسابها.
وبذلك تكون الديمقراطية هي الشغف الذي لا ينتهي بالحرية. التي تبدأ من الفرد وتؤول فيه فهو قياسها ودليل حضورها. وحتى يكون الفرد حراً عليه أن يشعر بالحرية وبهذه المثابة يكون قد تحقق من الديمقراطية منذ تصبح هذه لحظة ممتلكة بين يديه.
تتعين الديمقراطية، بما هي فضاء الحرية داخل الفرد، وتصبح واقعاً متعيناً في اللحظة التي يشعر فيها الفرد بشغف الامتلاء بحرية السؤال دون خفير وفي اللحظة التي يصل الشغف الداخلي لديه حد إقصاء الرقيب الذاتي، أي إلغاء منزلة الهلع التي تطوق إرادة البوح بالمحرم السياسي والمجتمعي.
الديمقراطية هي مثابة كشف عمَّا يثير الدهشة والهلع في الذات العارية إلاَّ من ذاتها وعلَّتها وجوهرها بالذات، وهي استفهام عمَّا يهجس العقل به، من دون أن يرده عن البوح شيء عائق، وهي العقل إياه وقد استوطن الفضاء الأكثر رحابة، حيث انفلت من عقال السلطة، كل سلطة، حتى سلطته الكامنة فيه كجلاد ممتلئ بالقسوة. وتضمن للإنسان التحرر من غرائزية مميتة تخضعه بانتظام لمزيد من الحاجات الاستهلاكية، وتضمن له حريته وسيادته على نفسه ومقدراته.
إن مبدأ الديمقراطية وهدفها الأسمى هو الحرية، والفرد الإنساني هو حجر الزاوية فيها. وشغف الإنسان إلى الإمساك بحريته وممارستها يظل هدف رحلته عبر التاريخ.
تبتدئ الحرية في الذات المفردة قبل كل شيء، حيث تكون أنت لا أحد سواك، وسط الجماعة. وتكون (الحرية) عنوان امتلاكك لعالمك الممكن بالكامل بحيث تتحرر من الحاجة على كل الأصعدة.
وتشكل الحقوق السياسية قرينة طبيعية لحقوق الحرية: فحقوق المواطنة الفعالة هي الضمانة الفضلى لحقوق الحرية والمواطنة.

إن الديمقراطية هي تجربة الإنسان بما هو إنسان، يفرضها العقل البشري وتحتمها الأخلاق لتحافظ على كرامة الإنسان وقيمته. تجربة أثبتت جدارة وحقاً في البقاء. وبديلها كريه وسيء غاية السوء. وهي في الواقع، إحدى شروط التحقق ونتاج عملية التحرر في الفكر قبل أن تتبلور هذه الأخيرة في آلياتها المتحررة في ميدان السياسة. وهي تمكين الفرد داخل المجتمع من المساهمة من موقع المسؤولية في تطوير ذاته وتطوير مجتمعه. وهي آليات في خدمة أهداف تنبثق من قيم الحرية، وهي تقنيات تهدف لمنع الاستبداد واحترام معادلة الحقوق والواجبات وتكريس المساواة بترتباتها التعددية والعدالة والحرية والسلم المجتمعي، وتَفَتُح مجال المحاسبة والنقد والتقييم، وإعادة إنتاج النسيج السياسي، وحماية النسيج المجتمعي، وتجدد الدم التمثيلي، والتصدي للاستبداد الفردي والفساد المؤسساتي.. وتكمن قوتها في حرية الرأي في المحظورات، وحرية التنظيم، وفي السلطة المضادة، وبأنها لكل الناس، (من نحب ومن نكره)، وتتيح التمتع للكل بالحق نفسه بالتمرد والاختلاف، وتفجر طاقات الخلق والإبداع.