كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

المدينة والإنسان

مروان حبش- فينكس

لقد بيّن سقراط أن المدن تنشأ بسبب عجز الإنسان بحكم طبيعته عن الاكتفاء بنفسه، واضطراره للتعاون مع غيره من الناس، الذين لهم نفس الحاجات مع تفاوت قدراتهم، على تلبية هذه الحاجات. وهؤلاء الناس سيعيشون حياة يتمتعون فيها بالرفاه والسلام.
وعند ابن خلدون أن الاجتماع الإنساني ضروري، أي لابد من الاجتماع الذي هو المدنية وهو معنى العمران....، إلا أن قدرة الواحد من البشر قاصرة عن تحصيل حاجته....، فلا بد من اجتماع القُدَر الكثيرة من أبناء جنسه ليحصل القوت له ولهم، وكذلك يحتاج كل واحد منهم أيضاً في الدفاع عن نفسه إلى الاستعانة بأبناء جنسه......، وإذا كان التعاون حصل له القوت للغذاء والسلاح للمدافعة، فإن هذا الاجتماع ضروري للنوع الإنساني. ثم إن هذا الاجتماع إذا حصل للبشر فلا بد من وازع يدفع بعضهم عن بعض....، فيكون ذلك الوازع واحداً منهم يكون له عليهم الغَلَبة والسلطان واليد القاهرة...، بمقتضى الفكرة والسياسة.
وقامت الحضارة اليونانية القديمة على الإخلاص لدولة المدينة والتفاني في حبها، وكان الاستقلال كما يفهمه اليونانيون، يفترض وجود دولة مدينة يستطيع مواطنوها أن يجتمعوا في أوقات معينة في مكان واحد.
إن المدينة هي الإنسان متموضعاً ضمن إطار جغرافي اجتماعي محدد يعبر به عن نظرته إلى لعالم، وعن تطلعاته وهمومه.
تعتبر المدينة في نشوئها وتطورها جماع الحضارة، جماع المظاهر المادية لهذه في نواحيها كافة، فهي صورة المجتمع من جهة، ومجال تطبيق نظمه السياسية وموضع تحصيناته وتصوره للحرب والسلم ومركز اقتصاده وإدارته ومكان مؤسساته الثقافية ومرافقه، ومجال اضطراب الناس في المعاش جيلاً بعد جيل في همومهم الخاصة والعامة.
تتطور المدينة مع مر الزمن، كما يختلف بعضها عن بعض حسب المناطق، ولكل منطقة تميزها وطابعها الخاص. وتودع كل حضارة في مدنها صورة وخلاصة حضارتها، بما في ذلك العقائد والإيديولوجيا التي تؤمن بها الجماعة الإنسانية صاحبة المدينة، وتكشف عن مدى قدرتها على تحرير الظروف البيئية والجغرافية بما يتفق مع حاجاتها وأفكارها وأذواقها ونظمها الخاصة.
إن المدينة وسكانها وحدة متناغمة موحدة هي صورة لهم، وهم صورة لها، وهي كيانٌ حيٌ متجاوبٌ التطور مع حاجات المجتمع السكانية والسياسية والاقتصادية والثقافية، والتحديدات التي توضع لها ووظيفتها.
لعل العنصر الأكثر فعالية في المدينة وخاصة الكبيرة منها هو عنصر السكان، الذي يتألف من كل المستوطنين منذ القدم بالإضافة إلى الجماعات المهاجرة، وينشأ عن هذا الامتزاج مجتمع حضري متعدد المشارب، وإيجاد هوية ثقافية مشتركة من جميع نواحيها المهنية وخبراتها التجارية، واحتياجاتها البشرية، وتدور الحياة العامة قي الشوارع، حيث الخدمات والقطاعات التجارية، بينما الحياة الخاصة تتطلع نحو الداخل والعيش بأمان ضمن أسوار المنازل، والمنطقتان مترابطتان باتساق، ولكنهما ليستا بالضرورة مندمجتين.
ويتباين هذا التقسيم في الوظيفة والفضاء تبعاً للظروف الطبوغرافية والتاريخية للمدن المختلفة، ويمكن التعرف على مراحل التطور التي لحقت بالمناطق الرئيسية والتي تخدم الحاجات الحيوية للمدينة، إذ شكلت المباني المقامة للدفاع والحماية حدوداً مادية واضحة. وتعرف المدينة بما فيها من منشآت تجارية وصناعية و دينية و ثقافية وترفيهية.
لمس التراث الإنساني من قريب أو بعيد معنى المدنية والحضارة، بما يرمزان إليه من تغيرات ترغم النازح على التخلي عن شكله القديم، وعلى أن يلبس للبيئة الجديدة لبوسها.
هناك من يفزع من المدينة والحضارة، كميسون بنت بحدل زوجة الخليفة معاوية بن أبي سفيان،
لبيت تخفق الأرواح فيه أحبُّ إلي من قصر منيف
والصوفي بشر بن الحارث، المعروف بالحافي، الذي نزل إلى سوق بغداد، فهاله ما رأى، فخلع نعليه، ووضعهما تحت إبطه، وجرى في اتجاه الصحراء. والشاعر بودلير يرى المدينة عاهرة، ورسم "أودين" صورة ليوم يعيشه إنسان اليوم روتينية مملة، وهي تشوهات حضارية عالية المستوى، وهناك من نبه إلى خطر قادم من الهجوم الحضاري.
يدل هذا الفزع إلى ضرب من الوعي بحركة النفس في صراعها بين ما درجت عليه من جهة وما آلت إليه من جهة خرى، وهذا أقرب إلى الروح الرومانسي، أو موقف فكري يتعلق بالجانب الخلقي الذي تغير بفعل البيئة المدنية، في الموقف من المدينة. وبخطوة أبعد كثيراً نجد "الفريد دي فيني" قد استنكر القطار، لأنه رمز السرعة، وفي استنكاره تذمر من اختلال العلاقة بين الإنسان والزمن، فالاختراع الجديد لا يسمح بالتأمل الذي هو السمة المميزة للإنسان.
إن المدينة - كموضوع- فكرة شديدة المعاصرة، كمفهوم حضاري في تصور جديد للكون والمجتمع والإنسان، بفعل من الثورة الحضارية العالمية في مستوياتها الاجتماعية والفكرية والتكنولوجية. وبما تحمله في طياتها من تغيرات فلسفية واجتماعية وسياسية.
من الفلاسفة والمفكرين وعلماء الاجتماع من أبحر في عالم الأحلام البشرية، ليثبت أن التفكير اليوتوبي"1" يمثل بعداً من أبعاد التجربة الإنسانية، في الحضارات والعصور القديمة والحاضرة على السواء.
أضفى أفلاطون، في "جمهوريته" التي تضع أسس مدينة مثالية للمستقبل، شكلاً أدبياً على أحلام العصر الذهبي والمجتمعات المثالية التي لازمت الإنسان بغير شك، منذ أن بدأت المناقشات الواعية للمشاكل الاجتماعية. ولقد وضع في مقابل روح الاستقلال والنزعة الفردية التي تميزت بها الحياة اليونانية، وضع تصوره عن دولة قوية متجانسة وقائمة على تنظيمات ثابتة ومبادئ تسلطية. وسوف تُحْكَم المدينة على نحو أفضل عندما يتفق العدد الأكبر من الناس على إطلاق كلمات "ملكي" أو "ليس ملكي" على نفس الشيء. ولهذا السبب يلزم أن تكون بين حراس المدينة مشاعية في الزوجات والأطفال، حتى يعتقد المواطن أن كل شخص يقابله هو أخ له أو أخت، أو أب أو أم، أو ابن أو إبنة...، وبذلك يكونوا حراساً حقيقين ويحول دون تمزيق المدينة. وتقوم الحكومة في دولة أفلاطون المثالية على عاتق طبقة من ذوي المواهب العالية من الرجال والنساء. ومن الضروري في جمهوريته أن تتماشى الموسيقى والأدب والعمارة والتصوير مع معايير أخلاقية، وأن يكون رئيسها من الفلاسفة، وفق مقولته الشهيرة "سعيدة هي الدولة التي يكون فيها الفيلسوف أميراً، أو التي يكرس أميرها نفسه للفلسفة".
والفارابي في كتابه "آراء أهل المدينة الفاضلة" قال: إن الإنسان اجتماعي بطبعه ومضطر إلى هذا الاجتماع لسد حاجته، والمجتمعات هي التي يتحقق فيها التعاون الاجتماعي بوجه كامل لتحقيق سعادة الأفراد، وإن المدينة الفاضلة هي المدينة التي تتحقق فيها سعادة الأفراد على أكمل وجه، ولا يكون ذلك إلا إذا تعاون أفرادها على الأمور التي تُنال بها السعادة، واختص كل منهم بالعمل الذي يحسنه وبالوظيفة المهيأ لها بطبعه. وحاول تكوين صورة عن مجتمع فاضل، وأراد أن ينشئ مدينة وفقاً للمبادئ التي تقوم عليها فلسفته وآراؤه في السعادة والأخلاق والكون وخالقه وما وراء الطبيعة، وشرح شؤون المدينة وما ينبغي أن تكون عليه في مختلف فروع حياتها.
لقد كان لتصورات الدول المثالية الخاصة بالماضي الأسطوري أو المستقبل البعيد، والكتابات النظرية عن فن الحكم، تأثير كبير على مؤسسي الدول والمجتمعات المثالية في عصر النهضة الأوروبية، وعصر الثورة الإنجليزية، وعصر التنوير، ويوتوبيات القرن التاسع عشر، واليوتوبيات الحديثة.
ويقول أناتول فرانس: لولا يوتوبيات العصور الأخرى، لظل الناس يعيشون في الكهوف عرايا بؤساء. إن اليوتوبيات هي التي رسمت خطوط المدينة الأولى، ومن الأحلام السخية تأتي الوقائع النافعة. إن اليوتوبيا هي مبدأ كل تقدم، وهي محاولة بلوغ مستقبل أفضل.
إن المثالية هي افتراض علمي، فليست هناك مدينة مطلقة "مثالية"، كما تؤكد جميع التعريفات التي قدمها العلماء من تعريف إحصائي، أو إداري، أو تاريخي، أو وظيفي، كما يقول الدكتور جمال حمدان في كتابه "المدينة العربية- جغرافية المدن".
ومع كل الانتقادات لمدن ودول ومجتمعات اليوتوبيا، ما زال الخيال البشري عن الحلم بواقع إنساني أفضل، ولن يتوقف عنه في يوم من الأيام.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1) كان توماس مور (1478- 1535) هو أول من صاغ كلمة يوتوبيا في نطقها اليوناني. ووضعها عنواناً لكتابه، وقد اشتقها من الكلمتين اليونانيتين OU بمعنى "لا" و TOPOS بمعنى "مكان" وكتب الكلمة باللاتينية لتصبح UTOPIA . واستخدم اللفظ منذ ذلك الحين في كل اللغات الأوروبية، وفي ترجمته العربية أيضاً، ليعني نموذجاً لمجتمع خيالي مثالي يتحقق في الكمال، ويتحرر من الشرور التي تعاني منها البشرية.