كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

العرب والمستقبل -ح3

مروان حبش- فينكس:

ونعود، ثانية، للقول: إن ظروف التراجع والانكسار، هي البيئة التي تنتج السؤال التاريخي، ما العمل؟ وهذا السؤال هو أحد العوامل التي تؤسس لمشروع نهضة ينقذ العرب من انحطاطهم المطبق، وفي مناخ التراجع والانكسار هذا، وممكنات الأمة لا تفسح مجالاً كبيراً، يرد التساؤل: هل التفكير في مثل هذا المشروع وفي مثل هذه الظروف هو فعل من أفعال الادعاء اللفظي الأيديولوجي المنبثق عن سياسة الهروب إلى الأمام وعن التضخم الأيديولوجي في الوعي العربي، وفقدان حس الواقعية في التفكير السياسي وفي القدرة على تمثل الممكنات تمثلاً صحيحاً؟
بداية، يجب دفن الموتى حقاً بدل أن تستمر مأساة دفن الموتى للأحياء، وأن ندرك أن لكل عصر روحه الخاصة التي تؤثر على تفكير أفراده، وأن إرادة الإنسان الفاعل الواعي هي المحركة لمسيرة التاريخ، وهذه الإرادة الواعية بفعاليتها تنحاز بالضرورة إلى العقلاني وتسعى إلى تحقيقه في الواقع، وهي إرادة وفاعلية فئات صاعدة من رحم الحاضر ذاته، الحاضر الذي يحتوي على العوامل الدافعة للتطور والنابذة له، وهذا يفضي إلى ضرورة أخذ الواقع وإحضاره إحضاراً واعياً على مستوى التأسيس كنظام ونهج، غرضه دفع الفكر نحو آفاق مفتوحة غير قابلة للانغلاق, وما من نهضة أو تحديث بمستطاعه أن ينجح لولا ما يشكله الواقع من حضور في الوعي، الحضور الذي يعتبر الواقع أساس الحقائق المستخلصة من مبدأ التجربة والاستقراء بدل التفكير المجرد، وبقدر ما يتراكم من خبرات الواقع، مع ما تضيفه الذات الإنسانية من قوالب ومضامين يبرز التفاعل والجدل بين الطموح والواقع المعاش.
إن الطموح هو التأسيس لمشروع نهضوي متكامل ومترابط بين أهدافه، مشروع تستقيم معه نهضة يمكن تحقيق بعض أهدافها، إذا لم يكن بالإمكان إنجاز تلك الأهداف كاملة، ومن مكونات عناصر هذا المشروع:
- الوحدة وضرورة إعادة تمثلها على نحو جديد في ضوء صورتها في الواقع المعاصر.
- الحرية وممارستها في نظام ديمقراطي يكفل تكافؤ الفرص.
- التداول السلمي للسلطة.
- العدالة الاجتماعية والتوزيع العادل للثروة، ودعم الشرائح الفقيرة في المجتمع.
- التنمية المستقلة وبناء قاعدة صناعية متينة، ومكننة الزراعة، وتطوير الخدمات، ومكافحة البطالة.
- مجابهة العولمة بحيازة القدرة التقانية والعلمية لتطوير المحركات الأساسية لدينامية التنمية المستقلة، والعمل على إنتاج سوق فعلية عبر الزيادة في الدخل القومي وتطوير معدلات النمو وتحقيق الاستقرار السياسي الديمقراطي والاعتماد الجماعي على النفس من خلال التكامل العربي، وهذا يوجب تحقيق تحول جذري في رؤية العرب ومفاهيمهم وسياساتهم العامة.
- الاستقلال الوطني والقومي، ويكون بتوفير عوامل القوة التي ترسخ الاستقلال.
- التحرير، وعوامله تبدأ من تعبئة الشعب، ونشر ثقافة المقاومة، ومقاطعة منتجات العدو، وتتوج بالكفاح المسلح والحرب الشعبية.
- المرأة وحصولها على كامل حقوقها، وضمان المساواة الجندرية لها في التشريعات والقوانين وتأهيلها لممارسة دورها كمنتجة.
- انطلاقاً من أن حدود بعض الأقطار العربية قد حددتها الدول الاستعمارية، ونتيجة ذلك وجدت بعض القوميات نفسها أنها أصبحت أقليات، لذا من الواجب مساعدتها، وإذا اقتضى الأمر منحها حق تقرير المصير.
ومن الضروري التنبه إلى بعض القضايا المتعلقة في صياغة المشروع النهضوي، وفي آليات تطبيقه:
إن التحدي الذي يشكله نقد العقل يحدد زاوية الرؤيا لما نريد من المشروع، أي من «التطور العلمي والتقني والاقتصادي والسياسي والاجتماعي»، ووضع كل ذلك موضع التعقيل، وتحويل أنماط الفاعلية العقلانية بالنظر إلى غاياتها، كما يقول «ماكس فيبر».
وإن النهضة، بمشكلاتها وقضاياها، هي عملية اجتماعية تاريخية، جدالية، فكرية، تتحول خلالها المشكلات والقضايا إلى مفاهيم وتنظيمات تفعل في المجتمع المعاصر، وتدل بتكوينها ومضمونها على الشكل الذي يترتب عليه هذا المجتمع: شكل حياته وماهية قضاياه ومشكلاته وصورته ومكانته في المجتمع الإنساني الواحد والشامل، أي شكل المجتمع العربي المنشود بأبعاده الفكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية.
كما أن كل مشروع نهضوي تحديثي، يشير إلى جملة من سيرورات تراكمية يشد بعضها بعضاً. وكل مشروع نهضوي يتطلب إعلاء شأن العقل والعلم، لأن العوالم المعيشة المعقلنة تتصف بعلاقتها التفكيرية، وبنماذج راقية من الدمج الاجتماعي.
ويتطلب أيضاً تحديث الموارد وتحويلها إلى رؤوس أموال، ونمو القوى الإنتاجية وزيادة إنتاجية العمل، ونشر حقوق المشاركة السياسية وأشكال العيش المدني، وعلمنة القيم والمعايير، والسير نحو التعليم العام، والصحة للجميع. كما يتطلب، أيضاً، سيرورة التطور الاجتماعي والنظرة المدنية للأشياء، وهجر أفق مرحلة مضى زمانها.
إن كل مشروع نهضوي يحتاج إلى خلفية فكرية، وإلى حامل اجتماعي، وهنا يأتي دور المفكرين العرب، فهم ملزمون بأن يساهموا في نجاح المشروع النهضوي، وأن يقوموا بما يمليه عليهم الواجب، والشعور بالواجب هو أحد لوازم المشروع، ووجوده ضروري لنجاحه ثم ثباته ونمائه.
وإن القوى الفكرية والسياسية التي يمكن أن تنهض بدور رئيس في الدعوة إليه وفي نقله إلى الواقع، يجب أن تمتلك وعياً حاداً بهويتها، وعمقاً بانتمائها إلى الوطن العربي.
وتشمل هذه القوى كل الحركات التي يموج بها الواقع العربي: التيار القومي العربي، التيار الليبرالي العربي، التيار الإسلامي الاجتهادي، التيار الماركسي، القوى الاجتماعية المفترضة: «عمال، فلاحون، فئات من الطبقة الوسطى، رجال أعمال..»، الحركات الاجتماعية الصاعدة: «الشبيبة، النساء، حقوق الإنسان، حماية البيئة، التضامن مع شعب فلسطين وشعب العراق, مقاطعة البضائع الأميركية، التعامل مع العولمة».
إن حاملاً اجتماعياً، بهذا الحجم، يجب اعتباره طرفاً أصيلاً في حمل المشروع النهضوي وإنجاحه..
وإن اعتبار المقاومة كمحتوى للمشروع يطلق في الأمة الأجواء التعبوية الشاملة لميادين متعددة، بدءاً من استعمال فعّال للتقانة مروراً بإنجاز بنية من المؤسسات التربوية والاجتماعية والثقافية والهندسية، وهي قاعدة مهمة من قواعد الانتصار، لذا يجب ربط إرادة النهوض بإرادة المقاومة لكل احتلال أو عدوان أو هيمنة أجنبية.
كما، يجب تأهيل الجيل الشاب الذي يعيش ظروف محاولات اجتثاث وتصفية الفكر القومي وإرثه، ويعيش ظروف الانحسار والانحدار، يجب تأهيله ليكون أهلاً لحمل المشروع النهضوي العربي. ويكون ذلك بتوعيته بمنطلقات المشروع المؤسسة على قاعدة إرادة التغيير بعقلانية وتخطيط، بدءاً من تغيير طريقة النظر إلى الأمور في القضايا القديمة، والقضايا الجديدة التي تفرض نفسها الآن. والتأكيد على أن العلاقة بين أهداف المشروع النهضوي، هي علاقات تجديد متبادل، توجب العمل بها دفعة واحدة دون تمييز، لأنها تستند إلى تراكم تاريخي تترابط فيه أبعادها ومستوياتها ترابطا منظومياً شاملاً أو جزئياً.
وأن النهضة كلٌ ممفصل لا يحتمل أي فرز، فالأجزاء لا تتحرك بمعزل عن الكل، وهذا الكل له منطقه الخاص وقانونه ومقولاته الخاصة، وأن البُنى الكبرى للفكر التقليدي وللحضارات التقليدية قد انهارت مع انبثاق العصر العلمي التقني في القرنين 15/16 م، وهذا العصر العلمي الجديد أحدث تغيراً مذهلاً في وعي الإنسان بذاته وبمركزه في العالم، حيث انتقلت الإنسانية من " الرؤية التأملية إلى الفكر التقني ". ومع هذا الانهيار فقدت الحضارات التقليدية أكثر بناها الفكرية الكبرى، أي فقدت هذه البنى مبررات وجودها بفضل الهجمة الحداثية الغربية، ومن كونها لم تشارك في صنع هذه الحداثة، والغرب، أيضاً، لا يسمح لها بالمشاركة.
إن الأمم التي لديها رغبة الفعل في التاريخ، لا يمكنها الانخراط فيه من دون القيام بمجهود نقدي إزاء بناها الفكرية الموروثة، والابتعاد عن النزوع إلى المماثلة والمطابقة، أو الهرب إلى خطاب بياني، وبنية ثنوية اختزالية، أي باختصار، الابتعاد عن مماثلة مفاهيمها بالمفاهيم الغربية، صلاة = رياضة، وضوء = نظافة، شورى = ديمقراطية، لأن هذه المماثلة التي يسميها المفكر شاغان "أدلجة المأثور"، هي وعيُ زائفٌ، و "شرٌ محضٌ" لابد من الشفاء منه، ومن جدلية البؤس، جدلية التراث والمعاصرة.