كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

ليس عبثاً أن يسمي الروس كاتبهم العظيم دستويفسكي نبياً

من الذاكرة الروسية

ترجمة كفى الزعبي

ًاقرأوا هذه المقالة التي كتبها قبل ما يقارب المئة وخمسين عاما:

(كلمة خاصة عن السلاف كان بودي قولها منذ زمن بعيد للكاتب الروسي فيودور دستويفسكي)
حسب قناعتي الداخلية الكاملة والراسخة، فإنه لم يكن ولن يكون لروسيا كارهون وحاسدون بل وأعداء كتلك القبائل السلاف، فما أن تحررها روسيا حتى تسارع أوربا للاعتراف باستقلالها.
لا تعترضوا على كلامي ولا تصرخوا مدعين أنني أبالغ وأنني أكره السلاف، فأنا على النقيض من ذلك، أحب السلاف جدا! لكنني لن أبرر ولن أدافع عن رأيي، لأنني أدرك أن كل ما أقوله سيتحقق.
سيتحقق لكن ليس بسبب اعتقادي أن ذلك يعود لطبع وضيع وسيء لدى هؤلاء. قطعاً لا، فطبعهم يشبه طباع جميع السلاف، بل لأن مجريات الأمور لا يمكن أن تنحو باتجاه آخر.
فهؤلاء وما أن يتحرروا حتى يبدأوا حياتهم الجديدة – أكرر - بالإرتماء في أحضان الغرب. أحضان بريطانيا والمانيا، مثلاً، بحثا عن حماية وضمانة لدى الغرب لحريتهم. وحتى لو كانت روسيا في محفل هذا الغرب، فإنهم سيبحثون لديه عن حماية لهم من روسيا تحديداً.
يبدأون بفعل ذلك ـ إن لم يكن في العلن، ففي سرهم – عبر التأكيد لأنفسهم وإقناع أنفسهم أن ليس لروسيا أي فضل عليهم، بل على النقيض من ذلك: سيقولون إنهم بالكاد نجوا حينما وقعوا اتفاقية السلام بفضل تدخل المحفل الأوروبي، ولو لم تتدخّل أوروبا لكانت روسيا ابتلعتهم في الحال، معبرين بذلك عن اعتقادهم بـ"توسع امبراطورية سلافية روسية عظيمة تقوم على استعباد السلاف من قبل القبيلة الروسية الماكرة القاسية".
ربما سيمر مئة عام، وربما أكثر من دون أن يكف هؤلاء عن التململ في سبيل ما يسمونه "الحرية". من دون أن يكفوا عن الخوف من روسيا، ولن يكفوا عن شتم روسيا، الإساءة والتقول عليها والقدح بها أمام الأوروبيين وتحريضهم عليها، وحياكة المؤامرات ضدها.
لا. أنا لا أقصد هنا شخصيات محددة، فدوماً سيكون هناك من يدرك ما الذي كانت تعنيه، وماذا تعني الآن وماذا ستعني على الدوام روسيا للجميع. لكن هؤلاء لاسيما في البداية، سيبدون أقلية بائسة، سيتعرضون للسخرية، للكراهية بل وللإقصاء السياسي.
أما هؤلاء "المتحررون" السلاف، فسينتشون بالقول والهتاف على الملأ إنهم قبيلة متحضرة وقادرة على الانخراط والانسجام مع الحضارة الغربية العالية، بينما روسيا دولة بربرية، شمالية معتمة وباردة حتى إن دم شعبها ليس سلافياً خالصا، تنبذ وتكره قيم الحضارة الغربية المتطورة!
سيظهر لديهم بالطبع دستور وبرلمان وحكومة وخطباء وخطب بليغة... وهذا سيطمئنهم وسيثير شديد فخرهم. سيقرأون بفرح أخبارهم المنشورة في الجرائد الباريسية واللندنية، التي تبشر العالم بسقوط حكومة الدولة الفلانية (اسم البلد السلافي حسب الظروف!) وتشكل حكومة ليبرالية جديدة، وأن رجلهم، فلان الفلاني (اسم الشخص، أيضاً حسب الظروف!) قد وافق أخيراً على تسلم حقيبة رئيس الوزراء!
يجب على روسيا أن تستعد جدياً لذلك، فجميع هذه القبائل السلافية المحررة ستظل تلهث بنشوة نحو الغرب. إنهم مريضون به لدرجة ستجعلهم يفقدون هويتهم، وهم يحاولون أن يصبحوا أوروبيين، يتبنون القيم والأنماط الأوروبية. وسيمر وقت طويل وهم يعيشون محاولات الأوربة (التحول إلى أوروبيين) قبل أن يدركوا شيئاً ما من هويتهم السلافية، ومن رسالتهم السلافية الخاصة، في قلب البشرية.
ستظل شعوب هذه الأراضي السلافية تتخاصم فيما بينها. سيظلون يحسدون ويستفزون بعضهم بعضاً، لكنهم حتماً وفي لحظة الجد والمصاعب سييتجهون نحو روسيا طلباً للعون والمساعدة. ومهما كرهونا، تقولوا علينا وحاكوا المؤامرات مع أوروبا ضدنا وعبروا عن حبهم لها، فأن حدسهم سيخبرهم في وقت المصاعب (بالطبع في وقت المصاعب فقط) إن أوروبا كانت وستظل هي العدو الأول والطبيعي لوحدتهم، وإن من يحمي وجودهم على هذه الأرض هو ذاك المغناطيس الضخم الذي يسمى روسيا التي ستظل تجذبهم إليها ضامنة بذلك استقلالهم ووحدتهم.).
مقالة من كتاب "يوميات الكاتب" - فيودور دستويفسكي، أيلول - كانون أول 1877