كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

سفر دمشق والطائفة الأسينية

كتب عبد الكريم الجندي- فينكس:

ماهو سفر دمشق؟

سفر دمشق أو مايسمى اصطلاحاً (كتاب دمشق) هو عنوان اتفاقي لهذا الكتاب والذي يعد جزءاً من المخطوطات المكتشفة في كهوف قمران شمال غرب البحر الميت في فلسطين، والطائفة الأسينية هي من الطوائف اليهودية والذي كان آخر تواجد لها في بداية العهد المسيحي كما دوّن، ويبدو أن انتشار هذه الطائفة كان في منطقة الجليل ومنطقة قمران أو كان مركزها الرئيسي في دمشق وكان لها جماعات منتشرة في الجليل حتى مدينة القدس، كما يلمّح كتاب دمشق.

الطائفة الأسينية ومعتقداتها:

الطائفة الأسينية هي من الطوائف اليهودية، ذات الخلفية الغنوصية والمنحى الذي يتجه إلى الصوفية والسرانية كغيرها من الطوائف السرانية الغنوصية المتواجدة على امتداد بلاد الشام في تلك الفترة من (200ق. م- 100م)وكانوا يتبعون نظاماً صارماً من التقشف والعزلة، وباختلاف كثير في تعاليمها وشروحاتها للكتاب المقدّس عن مركز الحاخامية اليهودية الرسمية في تلك الفترة، وكان من سماتهم البارزة الترفع عن جمع المال ونبذ جامعيه، وامتناع عن الزواج غالباً. والتطهّر عندهم له قداسة خاصة، وكان التطهّر يتم بأحواض تشابه أشكال المعمودية والوضوء، وكان الطعام لديهم يتم بشكل جماعي ومنظّم، وغالبا ما يكون العشاء باحتفال طقسي يشبه إلى حد ما احتفال العشاء الأخير للسيد المسيح مع تلاميذه، وكانت أضاحي ونذور هذه الطائفة لا تقدّم في الهيكل في أورشليم مركز الحاخامية الرسمية وإنما كان يأخذ بشكل تقدمات شفهية وتعبدية بمظهر طقوسي خاص، ولقد تركت لنا هذه الطائفة مكتبة كبيرة تتجاوز ستمائة مخطوط، ومن كتبها الأهم كتاب "دستور الجماعة" و"مدرج الهيكل" و"كتاب دمشق" موضوع بحثنا.

تاريخ كتاب أو سفر دمشق:

بالنسبة لكتاب دمشق تم العثور على نسخة من هذا الكتاب قبل اكتشاف مخطوطات قمران، في كنيس قرائي في القاهرة من قبل العالم شختر وذلك بتاريخ (1896) وترجع هذه النسخة إلى القرن العاشر أو الحادي عشر، وقد تم نشر الكتاب عام (1910)، وقد اعتبر هذا الكتاب في تلك الفترة من الكتب الصدوقية أو كتاب الطائفة الصدوقية، أي ما سُمي في تلك الفترة (الوثيقة الصدوقية)، وذلك لذكر أبناء صدوق فيه. وبقيت الفرضيات تثار حول هذا الكتاب والمرجع الثقافي والمكاني الذي يعود إليه حتى اكتشاف نسخة منه ضمن مخطوطات قمران، مما ثبت فيما بعد أنه من الإرث الثقافي للطائفة الأسينية، ويتألف كتاب دمشق من جزئين أساسين القسم الأول هو ما يُسمى بالعظة تحوي ملخص التاريخ الحاصل في المدن الفلسطينية والعظة منه، والقسم الثاني ما يُسمى بالتعاليم وهو تذكير بالتعاليم المقدسة وضرورة المحافظة عليها، إلّا أن العلماء مازالوا مختلفين في موضوعين بشأن هذا الكتاب، هو تاريخ هذا الكتاب ومتى تمت كتابته من قبل هذه الطائفة، وبعض الترجيحات تقول أنه كُتب بتاريخ (63- 48) ق.م، والبعض يذهب إلى أنه أقدم من ذلك بكثير، و أما الاختلاف الثاني هو عنوان الكتاب (سفر دمشق)، لماذا دمشق؟ وهل يقصدون بدمشق نفسها مدينة دمشق التاريخية على الرغم أن الكتاب يعود للطائفة الأسينية الموجودة في مناطق البحر الميت، ورغم أن قمران هي شمال مدينة القدس؟ فهل كان ما هو متواجد في قمران هي جماعات متناثرة عن المركز دمشق؟ وهل كان المركز في دمشق المدينة التي نعرفها؟ حسب التقسيم الجغرافي في تلك الفترة وفق المؤرخ يوسفوس فإن دمشق كانت ضمن قضاء الجليل، أي ضمن القطاع الشمالي المحادد للقدس، ويذهب قسم من العلماء بأن اعضاء هذه الطائفة هم قسم من اليهود الذين عادوا من السبي وتمركزوا بمدينة دمشق وكانوا ذوي خلفية غنوصية وتأويل باطني للشريعة.

إشكالية المكان والمعلم في كتاب دمشق:

ماذا يقول كتاب دمشق عن دمشق يشير كتاب دمشق إلى ميثاقين، ميثاق قديم وميثاق جديد، والميثاق الجديد هو الميثاق الذي ألفته هذه الطائفة بتصوراتها ومنظورها السراني والغنوصي لآخر الأيام وزمن المحاسبة حيث أن للجماعة معلّم حق، وهذا المعلّم كان هو المسؤول عن التعريف وشرح الميثاق الجديد إلّا أنه قُتل من قبل سيد الشرّ ويسمونه (بلعام)، وربما تم اغتياله من قبل كهنة الهيكل. والمعلّم حسب الميثاق سيظهر في آخر الزمان ويكون مع الذين حافظوا على الميثاق الجديد، ويبدوا أن من وصايا كتاب دمشق أن كل من دخل الميثاق الجديد عليه أن يتجه شمالاً.. هل إلى دمشق المدينة الحالية أم قمران المشفرة باسم دمشق؟ حيث جاء في كتاب دمشق: ((بحسب وصايا الذين دخلوا في الميثاق الجديد في بلاد دمشق، وليأخذوا الأشياء المقدسة بحسب مؤداها الدقيق... الخ)) كما جاء أيضاً في عظة العقاب للأعضاء الخونة مايلي: ((الزيارة الأولى ساد أفراييم على يهوذا وجميع الذين انهزموا سلموا لحد السيف في حين أن الذين ظلوا متماسكين فروا باتجاه الشمال كما قال الرب ) سأنفي سيكون ملككم وكييون صوركم ونجمة إلهكم من خيمتي إلى دمشق))، و لماذا لم يقل قمران؟ فهنا التحديد لدمشق، فأي تواجد لهم في دمشق؟ وهل كان معلّم الحق هذا متواجداً في دمشق المركز وكان يمارس نشاطه في الجليل وصولاً إلى مقر اليهودية الحاخامية في الجنوب حتى تم اغتياله هناك؟

اليهودية الحاخامية في تلك الفترة كانت تقول: ((لا خير يأتي من الجليل))، فهل يقصد منه وصولاً إلى دمشق مركز الطائفة على الفرض؟ هناك اثنان من المعلمين الذين اشتهروا في التبشير في الجليل وتم قتلهم بتدبير من الطائفة الحاخامية الرسميه, الأول هو يوحنا المعمدان، والثاني هو السيد المسيح، فهل انطلاقهم كان من دمشق المدينة؟ أم من قمران البحر الميت المرمز لها بدمشق؟

يوحنا المعمدان:

والذي تم قتله من قبل هيرو دوتس الحاكم اليهودي في تلك الفترة بتنصيب روماني، يوحنا كان رجلا متعبداً حكيماً متقشفاً، وكان يعمّد الناس في نهر الأردن، وكان يدعو بقية اليهود إلى العدل والصلاح والعودة إلى سيرة الأنبياء الآباء، وكان مجال هدايته وطوافه منطقة الشمال ونهر الأردن والجليل، و لا نعلم أن هدايته كانت للميثاق الجديد للطائفة الأسينية أم لا؟ ورغم أنه يتقابل مع الطائفة الأسينية بالخلفية الباطنية والتطهر والتعمّد بالماء والتقشف وكان مسرح نشاطه في الأماكن نفسها لتواجد هذه الطائفة، إلّا أننا لا نعلم أنه كان ينتمي إلى جماعة معينة باسم معين، رغم أن الأناجيل أشارت عليه بأنه كان يبشر بمعلم سيأتي باسم الحق وينشر العدل والحق، أما المعلّم الثاني الذي مارس التبشير في الجليل، هو السيد المسيح.

السيد المسيح:

منهج السيد المسيح وسيرته تتقارب مع أتباع الطائفة الأسينية من ناحية التقشّف والتطهّر والتعمّد بالماء، وإضافة إلى ذلك فقد استطاع أن يحظى بأتباع ويطلقوا عليه لفظ معلّم، إلّا أنه يختلف عن أتباع الطائفة بأن تعاليمه كانت تناقض التعاليم الواردة في الشريعة الرسمية، فالإنسان عند السيد المسيح هو سيد السبت، ولم يخلق ليقدّس السبت، وكذلك في تجربته المشهورة في الأناجيل وحادثة الزانية التي لم يقم برجمها كما هو منصوص في الشريعة، ولا نعلم إذا كان في تجواله وكرازته في الجليل قد كان له أتباع أو كان له علاقة بدمشق المدينة التاريخية كمركز للحركة الأسينية أو قمران التي ربما رمزت بدمشق. و في المسار نفسه، فإن المعلّم هنا السيد المسيح اتجه جنوباً ليبشّر بالقدس لتتطور القصة فيما بعد نتيجة المواجهة القاسية مع كهان المعبد اليهودي لينتهي المطاف به موتاّ على الصليب، ليظهر مرة ثانية لأتباعه مبشراً بعودة ثانية، كما هو موجود في عقيدة و ميثاق الأسينين، ولا يوجد ما يؤكد هل كان الميثاق الجديد لأتباعه أن يكون في دمشق المدينة أم منطقة قمران التي ربما رمزت بدمشق، وهل تطورت قصة هذا المعلّم ليصبح السيد المسيح، القادم من دمشق ليلقى حتفه على الصليب؟ هناك ربما حادثة تاريخية قد تفك بعض الإلتباس وقد تدعم فرضية وجود مركزية للطائفة الأسينية في دمشق المدينة التاريخية، هذه الحادثة هي قصة إيمان (شاؤول) بولس الرسول فيما بعد.

بولس الرسول:

كان شاؤول من أكثر الناس عداوة لدعوة السيد المسيح، ولقد طلب من رئيس كهنة اليهود في ذلك الوقت رسائل إلى مجامع دمشق حتى إذا وجد أناس على عهد المسيح أخذهم موثقين إلى القدس – تعود هنا قصة شاؤول إلى دمشق – ففي طريقه أي شاؤول إلى دمشق، و إذ بنور من السماء قد سطع حوله فسقط على الأرض وسمع من يقول: شاؤول لماذا تضطهدني؟ فقال شاؤول: (من أنت يا سيدي) قال أنا يسوع الذي تضطهده، فقم وادخل المدينة دمشق، فيقال ما يجب عليك فعله، وبقي بولس ثلاثة أيام لا يرى رغم أن عينييه بقيتا مفتحتين من خلال مدلول هذه القصة ورمزيتها نستخلص أن شاؤول ربما تفكّر كثيراً ودرس قصة وسيرة المسيح، وما قاله هذا المعلّم وخضع لمناقشات كثيرة وجدالات حتى جاءه اليقين المتمثّل بهذا الصوت المعاتب، ومن ثم راودته عقدة الذنب عما كان سيرتكبه وما هو ذاهب إليه، فمدة الثلاثة أيام قد قضاها في دمشق يتجادل مع أتباع المعلّم، ومن هم في دمشق وفقاً للميثاق الجديد، وحسب القصة فقد نفذ شاؤل الطلب وذهب إلى دار الدمشقي المسمى يهوذا، ثم سيظهر المسيح لشخص يسمى حنانيا ويكلفه بالذهاب إلى دار يهوذا ليشفي بولس من العمى، المهم في القصة هم الأشخاص والمكان، فالمكان هو دمشق، ولكن الشخصان حنانيا ويهوذا من هما؟

فرضية ووجهة نظر:

فمن تأويل القصة ونتيجة للجدالات والمحاكمات العقلية التي خضع لها شاؤول واهتدائه لبيت يهوذا وربما هو كاهن أو فرد في جماعة ثم ليأتي حنانيا فيما بعد ليقوم بمعالجة بولس من العمى وتراتبية العمل في دمشق يدل أن بولس كان في جماعة وفق نظام معين، ورمزية العمى والشفاء منه هو ليس سوى رؤية الحقيقة في جوهرها والتعرف على شخصية المعلّم ورسالته الحقيقية و الإطلاع على مغازيها، و الاقتناع على يد الكاهن حنانيا هو الشفاء من العمى عن رؤية الأمور في غير محلها، والظلم: هو وضع الشيء في غير موضعه لانعدام النور نور المعرفة، دخل شاؤول بولس فيما بعد دمشق ودخل الجماعة وقابل القائمين عليها، وكانت الانعطافة الكبيرة في مسيرة شاؤول من عدو للمسيح إلى ناشر ومبشّر بالمعلّم الذي سيأتي في آخر الزمان، لقد قام حنانيا بفعل الشفاء من العمى ربما في ظاهر القصة قد مارس الطب، وهو ما مارسه أتباع الطائفة الأسينية وكان من جلّ أعمالهم تعلّم الطب ومعالجة الفقراء، فهل يقصد به الشفاء المعنوي ورؤية الأمور على حقيقتها، فقد جاء في الأناجيل أن السيد المسيح كان يشفي العميان، فحنانيا هنا حسب تأويل القصة وتتابعها ليس سوى رجل يتمتع بمواهب فكرية وروحية عميقة وذي منحى باطني سراني للشريعة اليهودية، مؤمّن بعودة معلّم الحق وينتظر كغيره في دمشق بناء للميثاق الجديد، لينطلق بولس فيما بعد ومن دمشق مبصراّ على يد حنانيا و مبشّراّ بعهد جديد يختلف عما هو موجود لدى جماعة القدس، ومبشّراً بعودة ثانية لمعلّم الحق، فهل تصلح قصة إيمان بولس للدلالة على أن مركز الأسينية كان دمشق المدينة التاريخية؟ وماهو موجود في قمران هو انتشار لأفراد هذه الطائفة، هي فرضية وتساؤل له ما له وعليه ماعليه؟

مراجع: كتاب مخطوطات قمران - البحر الميت - تحقيق اندريه دوبون و مارك فيلوننكو. ترجمة: موسى ديب الخوري.