كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

الصوفيّة.. بينَ الفلسفة والدين

عبد الكريم الجندي- فينكس:

كانَ من نتائجِ فُتوحاتِ الإسكندرِ الكبير ما يُعرَف تاريخيّاً بالحضارة "الهلنستينية"، وهيَ الحضارة التي ذابت في بوتقتِها كلٌّ مِن ثقافاتِ الإغريق وسورية ومصر وبلاد فارس في ثقافةٍ واحدة قدّمَت أنموذجاً فلسفيّاً جديداً للعالمِ القديم, وذلكَ بإعادةِ صياغةِ الأسئلة الكُبرى التي طرحَها أعمدةُ الفلسفة في ذلكَ الوقت (سُقراط وأفلاطون وأرسطو)، بحيثُ لم تعُد قيمةُ الفكر الفلسفيّ لذاته وبقوالبهِ المُجرّدة، بل بقدرتهِ على جعلِ الإنسان يتحرّر من قلقِ الموت، ويبحث عن سعادتهِ وسلامهِ وأمنهِ الداخليّ، فكانت فلسفةٌ جوهرُها الإنسان، وأسَّسَت لمُصطلح الإنسانيّة والعدالة الإنسانيّة الذي سيكونُ لهُ دورٌ كبير في الفتراتِ اللاحقة.

فبعدَ أن كانَ هناكَ فاصلٌ بينَ الدّينِ والمادّة، وعالَمِ الآلهة وعالَمِ الطبيعة، جاءَت الفلسفة الهيلينيّة لتجعلَ هذا الفاصلَ رقيقاً جدّاً بينَ الفلسفة والدين، ثمَّ ليندمجا في مرحلةٍ لاحقة في الدّياناتِ السماويّة الثلاث.الحسين بن الحلاج رسم تعبيري
و بعدَ أن كانَ أفلاطون يفصِلُ بينَ عالمِ الروح أو المُثُل وعالَمِ المادّة, وقوله أنَّ كلَّ ما في العالم المادّيّ من مَوجودات لهُ نُسَخ أصليّة حقيقيّة في عالَمِ المُثُل، وهيَ المُعوَّلُ عليها، وهيَ الأصل والمبدأ, ذهبَ أفلوطين (205- 270 )ق.م الى أنَّ هناكَ قطبَين؛ هُما النورُ الإلهيّ والظلام، وهذا الظلام وهميّ لاوجودَ له، و أن اشتدَّ كلّما ابتعدنا عن مركزِ النور الإلهيّ. ومن هُنا نقارن معَ ما وردَ في رسائلِ إخوان الصفا وخلّان الوفا بأنّهُ (لا أصلً للشرّ في عالمِ الإبداع). وكانَ "أفلوطين" يشعر أنَّ روحَهُ تذوبُ وتفنى في روحِ العالم كالقطرةِ في مياهِ المُحيط, ويرى أنَّ كلّ شيءٍ واحد، لأنَّ كلَّ شيء هوَ الله، حتّى الظلال (عالم المادّة والخلق).
و "لأفلوطين" تعودُ فكرةُ تقسيمِ الوجود إلى قسمين (عالَم الحقّ وعالَم الخلق)، فالخَلق صورة وهميّة وأظلّة تراكمت نتيجةَ بُعدِنا عن عالمِ الحقّ والنور. وقد أثّرت هذهِ الأفلاطونيّة المُحدَثة في الديانة المسيحيّة التي أتت بعدَها تأثيراً واضحاً فيما يتعلّق بمُصطلح (ابن الإنسان)، ووجود الله في القلب الإنسانيّ، كما وجوده في كلّ الوجود.
وقد استمرَّ هذا التأثير لمراحلَ بعيدة. يقول المتصوّف المسيحيّ "أنجيلوس سيليسيوس" (1624-1677) إنَّ كلّ قطرة تُصبح هيَ المُحيط عندما تذوبُ في المُحيط، تماماً كما تُصبحُ الروح عندماَ ترتفع وتُصبح الله), كذلكَ نرى تأثيرَ الأفلاطونية المُحدَثة، وبخاصّة "أفلوطين" في الديانة الإسلامية، سواء في موسوعةِ إخوانِ الصّفا وخلّان الوفاء، فهيَ واضحة بشكلٍ كبير, وكذلك عند الشيخ الأكبر "محي الدين بن عربي" الذي حافظَ على نظريّة "أفلوطين" في قسمةِ الوجود إلى حقٍّ وخَلق, فالحقّ هوَ عالمُ الإبداعِ والحقيقة، وعالمُ الخلق هوَ عالمُ التصويرِ والتدوين، والإنسانُ الكامل هوَ برزخٌ بينَ الحقّ والخلق.
وكذلك المُتصوّف "حسين بن منصور الحلّاج" الذي يقول: "ما دُمتَ تُشير فلستَ بمُوحّد حتى يستوي الحقّ على إشارتِكَ بإفنائكَ عنك، فلا يبقى مُشير ولا إشارة"، فقد لاحظَ فكرةَ الفناء كما عندَ "أفلوطين"، ولكن بصورةٍ مُختلفة. ويقول أيضاً: "لا فرقَ بيني وبينَ ربّي إلاّ صفة الذاتيّة وصفة القائميّة، قيامُنا به وذاتُنا به".
وهُناكَ كثيرونَ من مثل "السهرورديّ" و "جلال الدين الروميّ" وغيرهم, ونُلاحظ كلَّ الأفكار والتجلّيات لم تبتعد عن فكرةِ "أفلوطين"، كما نُلاحظ أنَّ كلَّ تجاربِ الصوفيّين هيَ واحدة وبطريقةٍ مُتشابهة من حيثُ الاعتزال وتقشُّف العيش، ولعلَّ الاعتزالَ والتقشُّف (أي الزُّهد في الإسلام والرّهبنة في المسيحيّة) كانَ موجوداً قبلَ "أفلاطون" لدى الإغريق والمصريّين القُدماء، وكانوا يعيشونَ ثنائيّةَ (الجسدِ والروح)، إلاّ أنَّ الإطارَ العامّ للفكرة الفلسفيّة لم يثبُت إلاّ لدى "أفلاطون" و"أفلوطين" فيما بعد.
ويقول "جوستيان غارد" في روايتهِ (عالَمٌ صوفيّ) عن تاريخِ الفلسفة: "إنّنا نجدُ أنَّ كلَّ التوجُّهاتِ الصوفيّة في كلَّ دياناتِ العالم دائماً مُتشابهة على اختلافِ الثقافات، ولا تعودُ الخلفيّة الثقافية الكامنة لدى الصوفيّ بالظهور إلاّ عندما يُحاول أن يقدّمَ تفسيراً دينيّاً أو فلسفيّاً للتجربة التي خاضَها".
ونجد المُلاحظة نفسها للكتابة والثقافة الصوفيّة في كتاب "أدونيس" (السورياليّة والصوفيّة)، حيثُ يُميّز في الكتاب بينَ الكتابة الصوفيّة ومفاهيم الفلسفة التجريديّة بقوله: "التجربة الكتابيّة الصوفيّة لا تُقدّم أفكاراً بالمعنى الفلسفيّ التجريديّ، وإنّما تقدّم حالاتٍ ومُناخات، وهيَ لا تُسرَد ولا تُعلَّم، وإنّما توقظُ الأشياءَ وتُفجّر أسرارها" ص١٣١.أدونيس 5
أمّا بالنسبة للاتّحادِ معَ المُطلق أساسُ الفكرة الصوفيّة وغايتُها، فقد لحظهُ "أدونيس"، إذ أكّدَ على تجربةِ الكتابة الصوفيّة بقوله: "إنَّها تجربةُ الوصولِ إلى المُطلق، وهوَ ما نجدهُ عندَ كبارِ الخلاقينَ في جميعِ العُصور، والأسطورة والرمز شكلانِ للاتّجاهِ نحوَ أعماق أكثر اتّساعاً، والبحث عن معنىً أكثرَ يقينيّة، والعودة إليها نوعٌ منَ العودة إلى اللاشعور الجمعيّ، إلى ما يتجاوزُ الفرد إلى ذاكرةِ الإنسانيّة وأساطيرِها، إلى الماضي بوصفهِ نوعاً منَ اللاوعي. هذا كلّه رمزٌ يتجاوزُ النسبيَّ إلى المُطلق، وفي الإيضاحِ عنه شعر، ولا تظهرُ الأفكارُ بذاتِها كما الفلسفة، وإنَّما تظهر في علاقتِها فيما بينها" انتهى الاقتباس.
وأخيراً، لابدَّ منَ التنويه إلى أنَّ الفكرة الصوفيّة في "الهند" و"الصين"، وما يُسمّى بالاستنارة والإشراق والتأمُّل معروفة لديهم من قبل "أفلاطون" بكثير، إلّا أنَّ فلسفتَها تجاهَ الإلهِ وكيفيّاته مُختلفة، إلّا أنَّ النتائجَ والخواتيمَ الإنسانية واحدة ومُتشابهة. وهُناكَ أيضاً بعضُ الناسَ الذين! مرّوا بالتجربة الصوفيّة دونَ أن يكونوا مُنتمينَ لأيّةِ ديانة، فقد أحسّوا فجأةً بشيءٍ أسمَوه (الوعي الكونيّ أو الإحساس الكوكبيّ)، كما أحسُّوا أنّهُم يخرجونَ من دائرةِ الزمن ويدخُلونَ الكون.
وأخيراً، أختمُ بهذهِ الأبيات "للحلّاج" يقولُ فيها:
"رأيتُ ربّي بعينِ قلبي ... فقُلتُ مَن أنتَ قالَ أنتَ
فليسَ للأينِ منكَ أينٌ ... وليسَ أين بحيثُ أنتَ
أنتَ الذي حِزتَ كلَّ أينٍ ... بنحوِ لا أينَ.. أينَ أنتَ
وليسَ للوهمِ منكَ وهمٌ ... فيعلمُ الوهمُ أينَ أنتَ
أشارَ سرّي إليكَ حتّى ... فُنيتُ عنّي ودمُتَ أنتَ
وغابَ عنّي حفيظُ قلبي ... عرفتُ سرّي فأينَ أنتَ
أنتَ حياتي وسرُّ قلبي ... فحيثُما كنتُ كنتَ أنتَ".