كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

الصهيونية واستعانتها بالمراكز الامبريالية لاحتلال فلسطين

د. عبد الله حنا:

يقدم اجتماع إتحاد الصهيونيين في الأراضي المنخفضة في أيار 1900 أحد الأدلة على المطامع الصهيونية في احتلال فلسطين واتخاذها منطلقاً لاستثمار الشعوب في شرقي البحر الأبيض المتوسط. فتحت ستار الظروف الصعبة التي يعيش فيها سبعة ملايين يهودي في روسيا ورومانيا دعا الاتحاد الصهيوني في الأراضي المنخفضة إلى توطين هؤلاء اليهود في فلسطين بضمانة الدول الكبرى وبموافقة تركيا. وطُرحت في الاجتماع إشكالية، هل تكفي أرض فلسطين لإعاشة سبعة ملايين يهودي؟ وهنا انتقل الخيال بالمجتمعين إلى الحديث عن الاستثمار في مناطق واسعة خارج فلسطين من بئر سبع حتى آسيا الوسطى مرورا بلبنان. [126].
نشأت الصهيونية وتكونت إيديولوجياًً في أواخر القرن التاسع عشر في مرحلة انتهاء عملية تحول الرأسمالية إلى إمبريالية. فالصهيونية هي التعبير الأمثل عن إيديولوجية البورجوازية الكبيرة للدوائر الحاكمة في غربي أوروبا. وقد كانت الصهيونية منذ نشوئها في أواخر القرن التاسع عشر على أوثق إتصال بالدول الإمبريالية الرئيسية وسياستها الكولونيالية (الإستعمارية).
أقامت الصهيونية بعد نشوئها علاقات وطيدة مع الإمبريالية الألمانية المتجهة بأبصارها ورساميلها وآمالها في الربح الوفير نحو الدولة العثمانية. ولهذا فإن هرتزل مؤسس الصهيونية وَعَدَ الإمبراطور الألماني غليوم (فيلهلم) الثاني في خطاب وجهه له، إنه "مع قدوم اليهود إلى فلسطين سينتشر نفوذ ألمانيا في الشرق". [127].
وهنا لا بدّ من طرح الأسئلة التالية: هل تحدّث قيصر ألمانيا مع السلطان بشأن السماح بالإستيطان اليهودي في فلسطين؟ وهل كان الاستيطان ممنوعاً بالكامل أيام عبد الحميد؟ ألم يكن للصهيونية أساليبها المتنوعة لتحقيق أهدافها؟
والواقع أن الصهيونية لم تقم لتحقيق غاياتها بخدمة الإمبريالية الألمانية فقط، بل خدمت الإمبريالية العالمية بأسرها. لقد كتب هرتزل إن الدولة اليهودية إذا ما أبصرت النور في فلسطين فستشكل "حصنا لأوروبة في وجه آسيا"، "طليعة في وجه البربرية". [128].
وهكذا فإن مخطط الدولة الصهيونية الموضوع في أواخر القرن التاسع عشر هدف إلى اجتذاب انتباه الدول الإستعمارية إلى الحركة الصهيونية، التي يمكن أن تقدّم أحسن الخدمات للمستعمرين.
عندما تببّن لقادة الصهيونية العالية أن الإستعمار الألماني سيخسر الحرب العالمية الأولى، يمموا وجوههم شطر الإستعمار البريطاني، الذي وهبهم وعد بلفور سنة 1917 مكافأة لهم على خدماتهم في مساعدة الإستعمار البريطاني. وبقيت علاقة الصهيونية بالإستعمار البريطاني قوية في فترة ما بين الحربين العالميتين، حيث مهّد الإنتداب البريطاني الطريق أمام الصهيونية للإستيلاء على الأراضي العربية في فلسطين، وقبول دفعات جديدة من المهاجرين اليهود.
وبعد أن أخذ الإستعمار الأميركي أثناء الحرب العالمية الثانية يحتل المرتبة الأولى في العالم الرأسمالي نقلت الصهيونية العالمية مركز نشاطها من أوروبا الغربية إلى الولايات المتحدة، وعقدت أوثق الصلات مع قادة الإمبريالية الأميركية، التي يتألف قسم كبير منهم من الرأسماليين اليهود. لقد كانت – ولا تزال – ثمّة مصالح مشتركة ومنافع متبادلة بين الصهيونية العالمية بأصوليتها الدينية العرقية الراغبة في الاستيلاء على فلسطين، ومن ثمّ إقامة دولة اسرائيل الكبرى من الفرات إلى النيل، وبين الإمبريالية الأميركية الساعية إلى استثمار العالم العربي ونهب بتروله (و لاحقا غازه) وثرواته وعرقلة وحدته المعادية للامبريالية. وهكذا فإن لقاء مصالح الصهيونية والإمبريالية الأميركية هو الذي يفسّر هذا الحلف غير المقدس بين إسرائيل والإستعمار الأميركي. وتداخَل مع خطوط هذه المصالح ودعّمها انتعاش المسيحية المتصهينة في الولايات المتحدة وتبريرها "شرعية" احتلال إسرائيل لأرض التوراة، تلك التوراة المليئة بالأساطير والمجافية في كثير من رواياتها للوقائع التاريخية.
 ************
أليس من واجب خليفة المسلمين صون فلسطين؟..
فلماذا هذه الضجة الصاخبة في تعظيم السلطان عبد الحميد؟
بداية لا نرى مِنّة للسلطان عبد الحميد في عدم موافقته على الاستيطان اليهودي في فلسطين. وكان من الطبيعي أن يَرُد زعيم الصهيونية هرتزل خائباً في مسعاه لتوطين اليهود في فلسطين وهي ديار مقدسة. فهل من المعقول أن يوافق "أمير المؤمنين وخادم الحرمين الشريفين وظل الله في العالم" على طلب هرتزل ويرضخ للإغراءت الصهيونية؟ وهل يمكن أن يقبل الداهية السلطان ورافع راية الإسلام (حسب طريقته) والمُطّلع على أسرار السياسة الدولية بتسليم الأرض المقدسة فلسطين إلى اليهود، أو بالأصح الصهيونية؟
 
فقد رأى السلطان بأم عينه إفلاس الدولة العثمانية عام 1875 واضطراره لإصدار فرمان محرم في 20 – 12 – 1881، الذي قضى بإنشاء "صندوق الدين العام". هذا الصندوق, الذي أدارته الشركات الأوروبية الرأسمالية لتحصيل ديونها، تحوّل إلى دولة داخل الدولة. ومنذ هذا التاريخ (صدور فرمان محرم 1881) تحوّلت الدولة العثمانية إلى دولة نصف مستعمَرة للدول الأوروبية. ورأى السلطان بأم عينه كيف أمسكت الدول الأوروبية الرأسمالية السلطنة العثمانية من تلابيبها..
 
فليس من المعقول أن الداهية عبد الحميد لم يكن يدرك أن هرتزل ينصب له فخّاً، وأنه يُقَدِّم له طُعمَ المساعدات المالية لإنقاذ السلطنة من أزمتها للوصول إلى مآرب أخرى. فالسلطان خلال خبرته الطويلة وما يمتلكه من معلومات كان يدرك أن مساعدة هرتزل المالية غير مضمونة الدفع ومحفوفة نتائجها بالمخاطر على مصير الدولة وعرش السلطان.
 
فالسلطان عبد الحميد رضخ قبل ذلك مستسلماً للرأسماليات الأوروبية عندما أصدر مرغماً فرمان محرم 1881 تحت وطأة إفلاس الدولة وعدم تمكنها من تسديد ديونها للشركات الرأسمالية الأوروبية. وبعد عقد ونيّف على فرمان محرم لم يكن السلطان مجبراً اقتصادياً هذه المرة إلى تحويل السلطنة إلى دولة مستعمَرة بالكامل وخسارة عرشه، إذا استسلم بالكلية للهجوم الرأسمالي الامبريالي، ولعروض زعيم الصهيونية هرتزل في إنقاذ الدولة من أزماتها المالية لقاء السماح لليهود في الاستيطان في فلسطين.
ويبدو أن السلطان كان مقتنعا بأن إشهار سيف الاستبداد وصقله كافٍ لإنقاذ عرشه. فجواسيسه يرصدون كلّ شاردة وواردة في السلطنة. ولم يكن لظواهر الفساد والرشوة والتزلف والنفاق والرياء والتملق وقع سلبي على نظرته في إدارة شؤون المملكة، طالما لا تُعرّض عرشه للهزّات المختلفة. وفي تلك الأجواء التي سبقت ورافقت زيارات هرتزل إلى إستطنبول ولقائه في إحداها مع السلطان، كانت الامبرياليتان البريطانية والفرنسية ومن بعدهما الألمانية تمُدّ اخطبوط رساميلها في البلاد العثمانية من أجل استثمار خيراتها وجني الأرباح الطائلة من عرق شعوبها. ومن أجل وصول هذه الإمبرياليات إلى غاياتها استعر أوار تنافسها في بلاط السلطان وبين حاشيته المتفسِّخة، حيث كان في وسع الرأسماليين الأجانب شراء أي شخص من الذوات بما فيهم حاشية القصر السلطاني.
إن تناسي آثار سياسة السلطان الداخلية الاستبدادية وقمعه للحريات و إلقاء سبب خلعه على العوامل الخارجية، مسألة بحاجة إلى ترَوّي وعدم إلقاء وزر الاستبداد على العوامل الخارجية رغم أهميتها. وفي السياق نفسه يمكن الرد على القائلين بأن السلطان خسر عرشه من أجل فلسطين، وتضخيم دور اليهود والماسونيين في إزاحته عن العرش. فانهيار عرش عبد الحميد تمّ بالدرجة الأولى نتيجة العوامل الداخلية. و مثال على ذلك مناهضة العشرات من رجال الفكر العربي في بلاد الشام، ومعظمهم من المسلمين السنة للاستبداد الحميدي. فلماذا وقف هؤلاء ضد الاستبداد الحميدي؟ أليس استخدام عبد الحميد الزهراوي وعبد الرحمن الشهبندر وفخري البارودي تعبير "كابوس السلطان عبد الحميد" دليل على أن الاستياء من الاستبداد السلطاني الحميدي بلغ ذروته؟ إن اعتماد نظرية المؤامرات لتفسير التاريخ لا تعني إلا الهرب من البحث عن الأسباب الداخلية العميقة المحرِّكة للأحداث، والمحصلة ترسيخ الاستبداد وتعميق أزمة التخلف والركود.