كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

عبد الكريم الناعم: الحريق الأخونجي (محطّات في الذاكرة)- الجزء الثاني

يتابع "فينكس" نشر "محطّات في الذاكرة" مع أعلام عرب,  وهذه المحطّة مع الشاعر السوري الأستاذ عبد الكريم الناعم, وننشرها في حلقات.

مع التنويه بأنّ ما خصّ به الشاعر عبد الكريم الناعم موقع فينكس, هو عبارة عن فصل من كتابه (المخطوط) "مدارات2".

 

"الحريق الأخونجي"

أولى البَواد رصدتْ من (حماه)، وذهب ذهن النّاس إليها، وروَّجَ مَن روَّج، بحسن نيّة، أو بسوء نيّة أنْ لا إخوان في حمص، وقد كان العقيد غازي كنعان يتبنّى مثل هذا الموقف، لا أدري هل جاهر به للتّطمين، أم لثقة نابعة من اطّلاعه، لا أعرف، وقد قلتُ له ثمّة رأي بين بعض أهل حمص يقول إنّ الفعل يبدأ بحماه، بحكم طبيعتها شبه العشائريّة، وبحكم تركيبة وأفكار معظم سُكّانها، وبحكم انّ لهم اندفاعة وفوْرة، يتّصفون بها، بينما تكون القيادة الحقيقيّة في حمص، وأنّ الدّهاء الحمصي ينتظر ويرتبّص، فوجدتُه، بحسب ما بدا لي أنّه غير عابيء بهذا الرأي بل هو يكاد يستخفّه،

                          *******

فيما أذكر أنّ أوّل اغتيال بدأ بحمص كان للرائد رامز عليا، وهو ضابط  في مدرسة المدرّعات التي كانت بحمص، وقد اغتيل في صيدليّة موقعها في أوّل حيّ الحميديّة، وحدث ما يُشبه الزّلزال النّفسي، بين مرحّب، ومتعاطف ممّن لهم موقف سلبيّ من السّلطة، وفي مثل هذه الأمور، غالباً ما يجنح النّاس للاستجابة لعواطفهم دون تمحيص، ودون بحث عن الاحتمالات، والمآلات، وما وراءها، إذْ يكفي أنّ ثمّة ما يشفي الغليل، دون تبصّر بنتائجه المُحتمَلَة،

الأحياء التي يشكّل غالبيّتها أناس هاجروا من الرّيف باتت على قلق وخوف، إذ معظم سكّانها من الطائفة "العلويّة"، وفي ذاكرتهم البعيدة تلك التصفيات التي افتتحَها السلطان سليم، الذي تقول الذاكرة الشعبيّة لهذه الطائفة، المنقولة شفاهاً، أنّه قتل فيها قرابة عشرين ألف علويّ في مدينة حلب في يوم واحد،

شعر كلّ علويّ في هذه المدينة من الأسماء التي لها شيء من الحضور الاجتماعي أنّه مُستهدَف،

خلال أيّام قليلة أُعلِنَ تداول النّاس خبر اعتقال مُنفِّذ عمليْة اغتيال الرائد عليا، وترك ذلك شيئا من الانفراج، والاطمئنان إلى أنّ أعيُن الأمن مفتوحة، ولكنْ.. حين جاؤوا به ليُمثّل الجريمة، وجدوا أنّ ثمّة ثغرات أمنيّة غير مُطمْئنة، فهذا الكلام لا يدلّ حقيقة على أنّه هو الذي قام بالاغتيال، وهو ضابط صفّ في الجيش في مدرسة المدرّعات، ويبدو أنّه نتيجة التعذيب الذي لاقاه اعترف، وفضّل الموت على ما لاقاه، وحين تأكّدوا من أنّه ليس هو، أرادوا أن يكفّروا عمّا ناله، فنُقل إلى فرع الأمن العسكري بحمص، وأثبت فيه جدارة، بحسب ما نُقل،أ علي عقلة عرسان

لا أستطيع تعديد الاغتيالات في حمص، ولكنّني سآخذ أبرز ما بقي منها في الذّاكرة،

الشاعر شكري هلال، خرج باتّجاه الفرن، في حيّ وادي السّايح بحمص، ليشتري الخبز، له ولزوجته، ولطفلته، فاغتالوه على باب الفُرن، وهو رجل  مسالم، وكلّ ذنبه أنّه علوي وبعثي،

فائق المحمّد، كان رئيساً لتحرير جريدة العروبة في حمص، وفي زمنه شهدت الجريدة نهوضاً، وحضوراً، واكتسبت مصداقيّة عالية بفضل تعاونه مع جميع كتّاب حمص وأدبائها، وأصدر مُلْحقا أدبيّاً أسبوعيّا كان من أرقي المُلحقات،.. فائق كنت أتردّد على مكتبه الذي كان جنوبيّ جامع خالد ببضع مئات من الأمتار، كنتُ أقول له خُذْ حذَرك، وكان معه في سيارته مسدس موضوع في بيته، ومزَرّر، قلت له ذات مرّة:
"يارجل هذا إشهاره للدفاع عن النفس يحتاج إلى مُعاملة، ضعه قريبا من يدك على الأقلّ"، فكان جوابه وهو يبتسم: "أخي أنا أفضّل ألف مرّة أنْ أُقتَل على أنْ أكون قاتلاً"،

ذات ضحى دخلتً إلى مكتبي في نادي المعلّمين القديم، ولم أكد أبداً عملي حتى جاءني هاتف من صوت مذعور ومكلوم وهو يقول لقد اغتالوا "فائق"،

وضعتُ السّماعة، وشعرتُ لمدّة ثوان طويلة وثقيلة أنّني ضيّعتُ الجهات، وقد شُيِّع بجنازة مهيبة، وحاشدة، شارك فيها النّاس، والسلطات الرسميّة، وبلغ من اندفاع بعض شبّان الأحياء، أنّ بعض المتهوّرين، والمُنفعلين، حين مررنا بحيّ "المريجة" حاولوا الهجوم على المحالّ الموجودة فيها، فتصدّيتُ لهم بمعونة البعض، ولجمناهم، وشتمناهم، وأنقذنا الموقف، وقد حفظ هذا الموقف مَن حفظه من أهل المدينة، وذكّرني به ذات يوم، وفي المقبرة أُلقيَتْ بعض الكلمات، وارتجلتُ كلمة، قيل لي إنّها كانت مؤثّرة، ولا أذكر منها إلّا تكراري فيها: "اللهمّ اشهدْ أنّهم يقتلوننا لأنّنا نحبّ هذه الأرض، ونريد لها الخير والكرامة"، ويبدو أنّي في ذروة انفعالي، خاطبتُ السيّد رئيس الجمهوريّة آنذاك، الرّاحل حافظ الأسد وقلت: "إنّنا نُريد تغيير كلّ شيء، من أجل كلِّ شيء"، ولقد همس في أذني هامس بعدها بقوله: "قد تُسأل من قِبل الأجهزة المعنيّة عن هذا الكلام"، فالتفتّ إليه وقلت له: "كلامي أنا مسؤول عنه"،أ فاضل السباعي

بعد اغتيال الشهيد فائق المحمد، بدأت الاغتيالات تأخذ منحى له دلالته، فلم يعدْ تنظيم الأخوان يترصّد الأسماء المعروفة، فقد اغتالوا تاجراً (علويّاً) يبيع القماش في شارع النّاعورة، وقتلوا ثلاثة من الذين يترزّقون اللّه ببيع بعض الخضروات والحاجيات على عربات صغيرة على طريق حماه، على مقربة من اتّحاد نقابات العمّال،

                                 *******

اضطرّتني المجريات إلى أخذ أولادي الذّكور إلى البريّة، وتعليمهم استخدام الكلاشنكوف، والمسدّس، وتَدارسْنا أنا وأخي خضر، وكان عضو قيادة فرع في الحزب، كيف تتمّ عمليّة الاغتيال، فوجدْنا أنَ معظمها كان يجري إمّا اثناء مغادرة المقصود لبيته، أو لمكتبه، أو أثناء عودته، فقرّرْنا أن نُشكّل نوعاً من الحماية الذّاتية بقدر المستطاع، فكان حين يريد مغادرة مكتبه في الفرع يتّصل بنا، وكان لا يسلك طريقاً واحدة يكرّرها في الذّهاب أو الإياب، بل يسلك كلّ مرة سبيلا غير الآخر، ونكون نحن في البناية، بعضنا على البلكون الأوّل، وبعضنا في رأس الشارع، لكي نضمن القدرة على الاشتباك مع العصابة فيما لو أقدموا، منطلقين من أنْ لا نسمح لهم بتحقيق مآربهم دون أن يدفعوا الثمن،

أمّا بالنّسبة لي فقد كان الباص العام وسيلة تنقّلي، وصرتُ لا أذهب لعملي في وقت محدّد، وأحيانا قد لا أذهب نهائيّاً، وغيّرتُ الكثير ممّا اعتدتُ عليه في المدينة، لاسيّما وأنّ العقيد غازي كنعان أبلغني ضرورة أن أكون حذرا، فقد اعتقلوا واحداً من أصل ثلاثة كانوا يُراقبونني، وفرّ اثنان، وقد اعترف أنّهم رصدوا خطّ سيري في ذهابي إلى عملي،

بعد هذا الخبر بمدّة قصيرة اتّصل بي العقيد مصطفى أيّوب رئيس فرع أمن الدّولة، وقال أنّه يريد أن يراني، وصادف أن كان ثمّة اجتماع في مقرّ المحافظة، كنتُ مدعوّاً إليه، وقال نلتقي هناك، وحين التقينا قال لي: "البارحة اشتبكتْ دوريّاتُنا مع ثلاثة من هؤلاء المجرمين، في سوق الحشيش، وقد قتلنا اثنين، وقُتُل عنصر من الأمن، وفرّ الثالث، وقد وجدْنا في جيب سترة واحد منهم مخطّطاً لبيتكم، وقد وُضعت عليه إشارة (إكْس)، فخذوا حذركم،

ما الذي يمكن أن نفعله، والدّولة بكلّ أجهزتها قد ارتبكتْ في مواجهة هذا التّنظيم؟!

صرتُ لا أتحرّك إلّا ومسدّسي مُلَقّم، والطلقة في بيت النّار، وأحمله في جيب المعطف فقد كان الفصل شتاء، بحيث أستطيع استخدامه من داخل جيبي إذا لزم الأمر،

كان رصْدهم لي أنّني أخرجُ من بيتي بحدود التّاسعة صباحاً، وأركب باص النّقل الدّاخلي الذي كان موقفه شرقيّ بيتنا بعشرة أمتار تقريبا، وأهبط عند موقف السّرايا، وأذهب إلى مكتبة أتاسي وصوفان في الجهة المُقابلة، وأدخل المكتبة، وأتصفّح الصحف، وأشتري بعضها وبعض المجلاّت، وأذهب للنّادي عبر شارع الدّبلان،

هذا كلّه تغيّر، وكان القلق مشروعاً، وليس الخوف عيبا، بل أن تجبن هو العيب،

ذات يوم دخلتُ مكتبة أتاسي وصوفان، وحين أردتُ المغادرة وقفتُ على الباب أستطلع الطريق، فوجدتُ شابّين في سنّ المُراهَقة يقفان قرب صيدليّة خلوصي الأتاسي الملاصقة للمكتبة، وبيد أحدهما سلسلة يتسلّى بتلويحها، وهذه السنّ كانت هي المفضّلة لدى الاخوان لتنفيذ عمليّات الاغتيال، فهم ينطلقون من دراسات نفسيّة واسعة لتجنيد عناصرهم، أصابني خوف عميق، وشككّتُ، وهَيّاْتُ مطرقة المسدّس وهو في جيبي، وتشاغلتُ بعناوين الكتب المصفوفة في الواجهة الزجاجيّة، وأنا أرى بطرف عيني تحرّكهما، تحرّكا باتّجاهي، وصاحب السلسلة يصفّر لاهياً، وحين مَدّ يده إلى جيبه كدتُ أُطلق النّار عليه، لولا أنّني رأيته يُخرج شيئا من جيبه لا علاقة له بالسّلاح،أ ممدوح عدوان

كان الموتُ قتلا على يد الاخوان يترصّدنا في كلّ مكان،

* في تلك السّنوات كان أخي "حسن" يعمل في السّعوديّة في مهنة الدّهان، وجاء لزيارة أهل بيته، وسمع ما سمع من قصص، وقد زارني ذات يوم، وسألني عمّا سمع به من تهديدات تُحيق بنا، فقلت له: "الأمر ما سمعتَه"،

اندفع بغضب وقال: "عليّ ماعليّ لئن أصابك مكروه منهم، لأحملّنّ الكلاشنكوف، وأذهب إلى الجامع الكبير في صلاة الجمعة، وسوف أحصد كلّ مَن يطاله الرّصاص"،

تبسّمت بمرارة، وقلت له: "أنا لا أشكّ في رجولتك أبو علي، ولكنْ.. إذا أردتَ أن تفعل هذا فلا تفعلْه بالمجّان، إنّ المخابرات الأمريكيّة والصهيونيّة مستعدّة لدفع مليون دولار لكي يقوم بمثل هذا العمل أيّ واحد، لإشعال فتنة طائفيّة، إسمع  ياأخي إنْ حدث لي مكروه فأنا لستُ أحسن من أحد من الذين سبقوني، ووصيّتي أن تختاروا ما يحفظ لهذا البلد وحدته واستقلاله".

لا أُنكِر أنّني، وأمثالي، وهم كُثُر، كنّا نعيش في تهديد دائم، وكان في الشّارع ثمّة مَن ينساق وراء عواطف بدائيّة، دون وطنيّة، وكان هذا مؤلِماً، ولعلّ الأكثر إيلاماً أنّ بعض أخطاء النّظام، وما من نظام في العالم لا توجد فيه أخطاء، هذه الأخطاء  يُعلّقونها في رقبة الطّائفة العلويّة، بعضهم يعلّقها بِجهل، والبعض باستغلال، والبعض بالانسياق،  

* في تلك الفترة كنتُ في زيارة لدمشق لمقرّ اتّحاد الكتّاب العرب، شارع مرشد خاطر، ودخلتُ مكتب الأديب والصديق والرّوائي والصّحفي عبد النّبي حجازي، وكان يجلس معه، شخص أعرفه من خلال الصّورة، هو الرّوائي فاضل السّباعي من حلب، وكنتُ قد دأبْتُ على كتابة مقالين كلّ أسبوع في جريدة الثورة السوريّة، أفضح فيها فكر الاخوان المسلمين، وتاريخهم، وتوجّهاتهم، وارتباطهم، حتى أنّ أحد العاملين في الجريدة قال مُمازحاً: "إذا كان الاخوان يغتالون الواحد مرّة فأنت يُفترَض أن يغتالوك مرّتين"،

جلستُ في غرفة الحجازي، وتَداولْنا بعض الأحاديث، فقال فاضل السّباعي للحجازي: "لمْ تعرّفني على الأخ"،

فابتسم معتذِراً وقال: "آسف، شُغلتُ بالحديث، وذكر اسمي، ومدّ يده نحوي"، فظَهَرتْ دهشةٌ على وجه السّباعي، كان واضِحاً أنْه تَعمّد أن تكون ذات إيحاء سلبيّ، ومُفْتعَلة، وقال كمَن عثر على شيء يبحث عنه، وما أظنّ أنّه كان لا يعرف صورتي من خلال الصحف والمجلاّت، وقال: "خَيّو.. ما هذا السّيل المتدفّق في كتاباتك عن الاخوان، مَن قال لك أنّ هؤلاء عملاء؟! هؤلاء وطنيّون، وحين لم يجدوا وسيلة للتّعبير اختاروا حمْل السلاح، أنتم لم تتركوا متنفّساً لأحد، صادرتم حتى الهواء، وانفردتُم بالسلطة، وتصرّفتم بها وكأنّها من أملاك آبائكم"؟!

احتفظتُ بهدوئي، وتمسّكتُ بألّا أنفعل، بعكس ماهي طبيعتي عليه، وكنتُ أُدركُ ما الذي يُضمره بميم الجماعة، فقلت له بهدوء:

"لقد قلت فعلتم، وأخذتُم، وَوَوَ، مَن تقصد بلغة الجمْع هذه"؟

شعر بالارتباك، وغمغم فقال: "أنتم.. أنتم.. كلامي واضح"

قلتُ: "سأنطق بما تحرّجتَ من قوله، هل تقصد (نحن) العلويّين"؟

قال بنبرة حازمة وجازمة مؤكِّداً: "نعم"،

قلت: "ولكنّ معركة الاخوان مع النّظام، فتعالَ لنسْتعرِض كم من العلويّين في القيادة القطريّة، وفي الوزارة، وفي المحافظين، وفي المدراء العامّين".

قال رافضاً: "لا، لا، هؤلاء كلّهم أدوات، إبحث كم العدد في أجهزة الأمن، وكم هو في "سرايا الدّفاع" – وكانت سرايا الدّفاع قد بدأت تحقّق حضورا خاصّا، ويقودها العقيد رفعت الأسد، الأخ الشقيق للسيّد الرئيس حافظ الأسد، أفصّل في هذا للأجيال التي لم تُعاصر تلك المرحلة- وكم هو العدد في الجيش.."

قاطعتُه وقلت له: "يكفي تعدادات وهْميّة، ومع ذلك هل تعرف ماذا يقول العلويّون ممّن يحملون هذا المنطق"؟

قال: "وماذا يقولون"؟

قلت: "يقولون أنظروا إلى الشرطة العسكريّة، فكلّها من "السنّة" إلّا ما ندر"أ ميشال كيلو

قال: "هذه لعبة السّلطة"

قلت: "إذأً هيّا أنا وأنت لنخرجْ في الشارع ومعنا بعض النّاس، ونقول هذا الكلام للسّلطة، بدلاً من المًنْطِق الذي تحمله"

صمَت، وكان يغلي كالمرجَل، التقطتُ الفرصة وقلت له بنبرة فيها الكثير من التحدّي والاستعداد للاشتباك إذا لزم الأمر،: "اسمع جيّدا، هؤلاء جماعة الاخوان عملاء منذ نشأتهم إلى يوم القيامة، ومُناصروهم عملاء، وسنناضل ضدّهم حتى يكون الحسْم"،

ووقفت، وعبد النّبي (البعثي) المُنظّم، شبه مشدوه، وكمَن واجه موقفاً غير متوقّع، ولكنّه لم ينبث ببنت شفة،

خرجتُ منفعلا ودخلتُ مكتب رئيس الاتّحاد الأستاذ علي عُقله عرسان، فسلّمتُ وجلستُ، ويبدو أنّ الانفعال ترك آثاره في ملامحي، فقال لي: "مابك؟ لستَ طبيعيّاً"؟

أجبْتُه باقتضاب، ولخّصتُ له الموقف، فتغيّرتْ ألوانُه، وقال: "أنا لا أعرف أنّ السباعي بمثل هذا الموقف، لعلّه منفعل"، تداركتُ الأمر وقلتُ له: "لا تخفْ، لستُ ممّن يكتبون التقارير" و.. غادرت...

                               *******

في تلك الفترة بدأ اسم "سرايا الدّفاع" التي يقودها العقيد رفعت الأسد، بدأ يُطرَح بقوّة، وأسّستْ لقيام دورات مظلّية يتّبعها شبّان وشابات من البعثيّين، ويُقيمون من أجلها معسكرات تدريبيّة، وتأهيليّة، ويُعطى مُتّبعو هذه الدّورات علامات إضافيّة تساعدهم على الدّخول إلى الجامعة، وأسّس رفعت الأسد "رابطة الدّراسات العليا"، وهي تضمّ كلّ مَن كان لديه شهادة ماجستير فما فوق في جميع الاختصاصات ، وصار لها مكاتب وفروع في عدد من المحافظات السوريّة، وكانت باباً من أبواب مهاجمة النّظام،

                               *******

* في تلك الفترة تشكّلتْ بطريقة شبه عفويّة، كما أرجّح مجموعة من الأدباء والصحفيّين في دمشق، وأبرزهم من العاملين في صحافة الدّولة، وإذاعتها، ومواقع أخبارها، وكانت ذات هويّة يساريّة، فيها مَن كان منظَّماً في الحزب الشيوعي، أو في أحد التّنظيمات ذات الشّعارات الماركسيّة، وفيها مَن ليس له أيّ انتماء تنظيمي، ولكنّه يعتبر الماركسيّة نهجه، وعنوانه في التقدّم والتحرّر، وفيها بعض مّن كانوا بعثيّين، وفيها مستقلّون، وقد عبّر هذا التيّار عن نفسه في أكثر من مناسبة، في انتخابات اتّحاد الكتّاب العرب، أو في اللّقاءات التي أُتيحتْ، وكان من أبرز هذه الأسماء: ممدوح عدوان، وعلي الجندي، وعادل محمود، وميشيل كيلو، وشوقي بغدادي، وحسين العودات، وسهيل إبراهيم، ونزيه ابو عفش، ووديع اسمندر، وعلي كنعان، وأسماء كثيرة،

كان موقفي من هذه الجماعة موقف الصداقة الشخصيّة فمعظمهم أصدقاء قُدامى، وقسم كبير منهم كانوا (بعثيّين) في فترة من الفترات، وكنتُ أتّفق معهم على العديد من السّلبيّات التي يطرحونها، وأخالفهم في أنّ النّظام غير وطنيّ، بل لم يكن لديّ شكّ في وطنيّته، مع إقراري بما فيه من أخطاء وثغرات، وهذا ممّا لا يكاد يخلو منه نظام من الأنظمة عير التاريخ، وهذا توصيف وليس تسويغاً،

بدأت الهوّة تتّسع بين هذه المجموعة ووزير الإعلام أحمد اسكندر، رغم أنّ الغالبيّة كانوا من أصدقائه أو مَعارفه،

ذات جلسة مع الوزير أحمد اسكندر أشرتُ إلى الفجوة التي بينه وبين هؤلاء الذين كانوا أقرب إلى الصّداقة، وتساءلتُ فيما إذا كان ممكناً ردْم هذه الهُوّة، فقال لي بألم: "كيف تردم مالا يُردَم، أحدهم (....) على سبيل المثال يكتب قصة عن حرب 1948 في فلسطين، ويقول فيها، ما معناه، لقد قاتلْنا في فلسطين، اللواء الدّرزي، واللّواء العلويّ، واللواء السنّي..، متى كان جيشنا هكذا، ويُطلَب منّي أن أجيز كتابا كهذا؟! أنت من أنشط كتّاب هذا القطر، هل تستطيع من خلال راتبك، واستكتاباتك، أنْ تتغدّى أو تتعشّى يوميّاً في أحد المطاعم كما يفعل هؤلاء؟! قلْ لي مِن أين يأتون بهذه المصروفات؟!

لا يُدفعوننا دفعاً باتّجاه كشف المستور، وتحديد الجهات التي يقبض منها البعض"....

 

يتبع

 

رابط الجزء الأول: http://www.fenks.co/%D8%A8%D9%84%D8%A7-%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D8%A9/%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9/12159-%D8%B9%D8%A8%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D9%83%D8%B1%D9%8A%D9%85-%D8%A7%D9%84%D9%86%D8%A7%D8%B9%D9%85-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%B1%D9%8A%D9%82-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%AE%D9%88%D9%86%D8%AC%D9%8A-%D9%85%D8%AD%D8%B7%D9%91%D9%91%D8%A7%D8%AA-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%B0%D8%A7%D9%83%D8%B1%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D8%B2%D8%A1-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%88%D9%84.html