"الصرخة".. قصة قصيرة
2025.11.09
محمد صباح الحواصلي
٥ تشرين الثاني ٢٠٢٥
فوزي ابن حارتي، لم يكن بيننا صداقة بل ما هو أثمن منها: الجيرة. وجهه دائماً باسم وفي كل الظروف، وحديثه أنيق؛ صوته خفيض وهو يحدث – فرحاً أو حزناً – وتبدو ابتسامته وكأنها موسيقى خلفية لحديثه، لا يقاطع إن كان يستمع، ويصمت إن قاطعه أحد ويستمع إليه بالإبتسامة نفسها ثم يستأنف ويتابع حديثه، وإن استثير لا يُستحمق ويقول كلماته مع ابتسامة واسعة وكأني بفوزي يقول لسامعه خذ من ابتسامتي أكثر مما تأخذ من كلماتي.. وهو بسلوكه هذا كنت أتبين مدى تقديره للحياة على الرغم من جناياتها.. وقد قالها لي مرّة: "الحياة جميلة يا طلال.."
كان فوزي شاباً وسيماً، أبيض البشرة، أنيقاً قدر المستطاع، قد تخرّج مؤخراً من كلية العلوم، ودرّس الفيزياء في ثانوية بضاحية من دمشق. وكان أخوه الكبير مأمون مهندسَ كهرباء، تخرج وعمل في مؤسسة الكهرباء ثم خدم العسكرية وعلق نجمة على كتفيه، وانتهى من الخدمة، وعاد إلى عمله، وخطبت له أمه، وكان على وشك الزواج.. ثم مات مأمون! صعقه تيار كهربائي في عمله أرداه قتيلاً.
كنا – شباب الحي - نقف على رصيف بنائه ننتظر خروج الجنازة.. سرنا وراءها إلى مقبرة الدحداح، وكان فوزي في مقدمة الجنازة وأبوه إلى يساره ركاماً مهدوما، وفوزي كان في حالة حزن شديد لكن ابتسامته المحيرة كانت حاضرة برداء أسود تلامحت في وجهه وزاحمت غضون الحزن، وكأنها لا تعني الإبتسامة بمعناها المألوف.. ولله في خلقه شؤون.
انتهت أيام العزاء الثلاثة، وبقي الأسى، ورأيت فوزي خارجاً من عمارته، ترددت قليلاً قبل أن اقترب منه وأسلم عليه إجلالا لحزنه، ولأنني عاطفي زياده عن الطبيعي عانقته مرة أخرى عناقاً احترت فيه كيف له أن يفصح عن شدّة حزني على رحيل أخيه، وكنت أعانقه كل يوم من أيام التعزية وأضغط بزراعي على ظهره. نظر إلي بوجهه الباسم وقال لي:
"راح خطف في عز شبابه.."
"الله يرحمه.."
"كنا على وشك أن نفرح به ويترك لنا من يحمل اسمه.."
انصرف فوزي، وكانت نبرة صوته رصينة جمالها مكسور الخاطر، وبدت لي ابتسامته وكأنها ستضيف شيئاً مهمّاً حول معنى الإبتسام.
علمت أن وفاة مأمون قد هدّ الأب، فمأمون ابنه البكر، وكان معيلا لأبيه الفقير الذي يعتمد على سيارته الخاصة التي يؤجرها لإحدى المؤسسات.
كان يؤلمني مشهد الأب المهدوم كلما خرج من بيته، كان يبدو لي أنه يسير دون روحه، دون حياته، دون ما بقي من غده؛ فَقَدَ سبب وجوده وأصبحت الحياة عبثاً لا طائل منها.. كان عندما يمر بالقرب مني أخشى أن أسلم عليه لكي لا أخدش حزنه العميق.
مضت أشهر وفوزي عندما يخرج من بيته ويقف على رصيف عمارته مع بعض الجيران كانت الإبتسامه نفسها في مكانها على ثغره وحزنه لا يزال ندياً كعروق الآس الأخضر على شاهدة قبر.. وظل فوزي محافظا على حديثه الأنيق وابتسامته الجذابة.
وجاء يوم آخر، بعد آذان الصبح، وقد صلى الأب في جامع صغير بحي السمانه، وعاد إلى بيته، وكانت الحاجة أم مأمون تصلي، وانتهت ونزعت عن رأسها غطاء الصلاة الأبيض، وقال لها:
"تقبل الله.. يا حاجة"
"منا ومنك.."
نظر إليها في عين جف في مقلتيها الدمع وحلّت محله الغضون. دخل أبو مأمون إلى المطبخ وقالت له الحاجة:
"أعملك شاي.."
"لا.. عودي إلى نومك.."
عادت الحاجة إلى سريرها، وعاد الهدوء إلى جُنبات الفجر، وظل ضوء المطبخ مُناراً، وكانت الحركة ساكنة في البيت، وعلمتُ من بعض الجيران فيما بعد أن أبا مأمون بدا لزوجه وكأنه يصلح شيئاً في المطبخ، دون ضوضاء، ومضى الفجر وبدأت بوادر النور تظهر، وظل ضوء المطبخ مناراً، وبواكير حركة الطريق هينة خفيفة. وعند تقدم الصباح خطوات قليلة أخرى عن ركنه الباكر، دوت في بيت أبي مأمون صرخة امرأة هزّت أركان العمارة والأبنية المجاورة. الصرخة تبعها حركة جزع مأساوية.. وأنفار من الجيران هرعت إلى مدخل العمارة، ووصلت سيارة شرطة وسيارة إسعاف، وأشتد الزحام والفضول ثم الذعر.. ولا حول ولا قوة إلا بالله غلبت على أفواه الكثيرين.
دخل الموت إلى البيت من جديد، وعاد الحزن والسواد، وحضرنا التعزية لثلاثة أيام.. وخيم صمت قاتل على البيت، والباب لم يفتح إلا للضرورة.. والنهارات تمضي والليالي يشتد سوادها، والأبجورات لا تزال مغلقة.
وذات يوم مجاور للحادثة، كنت أدخن سيجارة أمام محل الحمصاني (أبو وصفى) وجاء ذكر بيت (أبو مأمون). كنت أعرف عن واقعة الموت وتفاصيلها ولكن لماذا.. ما السبب؟
قال أبو وصفى الحمصاني وهو يدق الحمّص: "لقد خسر أبو مأمون (الله يرحمه) سيارته إثر حادث وتحطمت وهي مورد رزقه.. فشنق نفسه في المطبخ."
مرت أشهر أو ربما سنة وكنت مسافراً وعدت وصادفت فوزي في الجادة.
"مرحباً أخي فوزي.."
أطلت النظر في وجهه الأسطوري، صوته الأنيق المقبل على الحياة، والإبتسامة المحيرة نفسها، وحديثه لم يفقد رصانته.. قلت في سري: ما أدرانا بالنفس البشرية.. أي إقبال على الحياة هذا، وأي ابتسامة محيرة تلك، وأي رصانة. لم يطل حديثنا وكانت آخر كلماتنا فيها ود وابتسامة على ثغره وبادلته بمثلها لكن خفيفة خجلى على ثغري وقد زويتُ ما بين حاجبي وكأنني أعتذر من حزنه:
"خلينا نشوفك طلال.." قال لي.
"في أي وقت أخي فوزي.."
أنشغلتُ وانشغل فوزي، وانشغل السفر بي من جديد.. يعجلني فسافرت.. وربما فوزي أيضاً سافر.. وإلى الآن يباغت خيالي صورة منزله القاتم مغلق النوافذ.. وأبو مأمون مدلى بحبل وسط المطبخ، وكيف استيقظت الحاجة الأم لتصدم بمشهد زوجها وهو معلق بحبل ثم وهي تطلق صرختها المدوية.. وابتسامة فوزي الأسطورية لا تزال في مكانها تبكي بحرقة لا تنجاب.
ولاية واشنطن 18 تشرين الأول 2025