كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

‏رحيل أمير المنبرين.. الشاعر الكبير طليع حمدان

معين حمد العماطوري- السويداء

‏قبل ثمانية عقود ونيف شهد لبنان عامة وبلدة "عين عنوب" خاصة ولادة الشاعر الكبير طليع حمدان الذي أرسى دعائم الزجل اللبناني بموهبته وشعره، ودخل العالمية بجمال صورته وحضوره وصوته...
‏عام ١٩٤٣ كانت بلدة "عين عنوب" المعروفة بعيونها وينابيعها، قد عانقت أرز لبنان بخلود ابداعي، فإذا منحت أرز لبنان دلالة الانتماء للوطن، فإن ولادة طليع حمدان قد منح للشعر خلود القصيدة المنبرية...
‏لا يستطيع أحد أن يذكر الزجل اللبناني ويستذكر العمالقة الكبار أمثال خليل روكز وأنيس الحج وزغلول الدامور وزين شعيب ومحمد مصطفى وموسى زغيب وأنيس فغالي وإداور حرب وبطرس ديب وجريس البستاني وغيرهم دون أن يذكر طليع حمدان في مقدمة هؤلاء العمالقة....
‏رحل الشاعر الكبير طليع حمدان وما زال المنبر يفخر به، وهو يمنح الحرف جمال والكلمة عطر والصورة ابداع... لم يحمل غيره لقبه أمير المنبرين... وطليع الشاعرية...
‏حينما نستذكره فإننا نقف على أعتاب الشاعر المقاوم والمفكر والجمالي والغزلي والواقعي... هو شاعر شكل وحدة التنوع في الشعر الزجلي إضافة لجمال الصوت والحضور فهو صامت وله رؤية، ما صعد خشبة منبر إلّا وكان أمير الموقف.... يحاور بالصورة ويجادل بقناعة الرؤية والفكر الفلسفي، لم يتعلم أكثر من الصف الأول والثاني في صفوف المرحلة الابتدائية كما قال لي حينما زرته في بيته بعين عنوب عام ٢٠٠٠ إذ كنت أعد كتابا عن المطرب الراحل فهد بلان وأثر الكتاب بقصيدة مميزة راثياً بها فهد بلان.... حيث ختم قصيدته بقوله:
‏ومثل ما عنا الأرز خالد
‏انت خالد يا فهد بلان
‏وقد أهداني كتبه ("ليل وقمر" و"براعم الورد" و"الافتتاحيات" وغيرها)... ‏فماذا عسانا ان نقول بك وقد قلت في احدى حفلاتك مع الشاعر الكبير موسى زغيب:
‏أنا شـاعـر يا مـوسى مش مغني
‏ببكـــي لو جرح بــي إن أنِّـــــه
‏الشعر عندي مش قرايه جريده
‏الشعر نهدي طويله الشعر عني
‏قتلـني الشعـــر عالورد النبيدي
‏دفــنّي بْــزر غــطّـــاني بِــحِـني
‏رجعت فـتّــقــت هالزر بنهيدي
‏تَـمِـنُّـــو شالني النحـل المجني
‏رجع لَيّي الدَفَــنّـي بيوم عيــدي
‏ لقاني رحت من جَنّـي لِـجَـــنّي
‏تـيـغـفى عا أثر شعري ونشيدي
‏دفن حـــالو بمطرح مـــا دفـنّي
‏يا موسى بتسال الكلمه الفريده
‏تَـيِـحْـكِيـلَــك صباها البكر عني
‏انا ربي عَـــجـــن فيي القصيده
‏وتـا خلّـدهــا رجع فيها عَـجَـني
‏إجا للمــنـبــر مــواسم عديده
‏فــطاحل شعر بعرف مين هـني
‏اذا بسكت بـغــنّـو من رصيدي
‏وما بغنّـــوا إذا بــلّــشــت غني
‏حظن بالسما الزرقـــا البعـيدي
‏اللي غنو قبل مني بـصـغـر سني
‏ولو غني بـخـفـقـاتي الجـديدي
‏قبل القبــل مني شـعــر غَــنّــو
‏شو كانو رح يغــنّـــو بعد مِـــني
‏ ‏كثيراً ما حلمنا أن نلتقي بالشاعر الكبير طليع حمدان، بعد أن حفظنا من أشعاره الكثير ودوّنّا في ذاكرتنا حفلاته، سواء على شاشات التلفزة أم الأشرطة أم، كما اليوم، عبر وسائل التواصل الاجتماعي وتقنيات الإعلام الرقمي من يوتيوب وغيرها، ولا أبالغ إذا قلت إنني من حفظة أشعاره وحفلاته بالكامل، ولدى مكتبتي الفنية أشرطة له ما زلت أحتفظ بها منذ أربعين عاماً ونيف، وبالمجمل فهو بلا شك قامة إبداعية كبيرة في تاريخ الزجل اللبناني، مذ كان فتياً مع بداية الستينيات من القرن الماضي، حين اعتلى صهوة المنبر بصحبة عمالقة الزجل يومها وعلى رأسهم الشاعر الذي أحبه كثيراً وهو زين شعيب، ودخل في جوقة زغلول الدامور لمدة عشر سنوات بصحبة زين شعيب وإدوار حرب، وأسّس بعد ذلك جوقته المعروفة باسم جوقة الربيع، وقد زأر بإبداعه منذ شبابه.
‏لقب امير المنبرين:
‏ نال لقب أمير المنبرين بعد أن ناشد العالم والأدباء والشعراء بهذا اللقب منتزعاً ذلك اللقب من عمالقة الزجل يومذاك في حفل بيت مري حينما قال رداً على الشاعر جريس البستاني:
‏ ‏مع احترامي لشعر موسى وشعر زين ‏
‏وزغلولنا اللي اسمو شمخ عالفرقدين ‏
‏بعد بتجي الأيام على هالجوقتين ‏
‏وبدكن تشوفوني أمير المنبرين ‏
‏لقد جاء اعتراف معظم الشعراء به أنه أمير المنبرين بعد مدة قصيرة من قوله، إضافة إلى ما عرف به شاعر الزهرة والموسيقا والجمال والعاطفة والوجدان، هو ذاك الصوت النابع من دلالة الصورة الإبداعية، فحين يقدم حجته في معالجة مواضيع الزجل تراه فيلسوفاً وباحثاً، ومثقفاً، وحين يرنو نحو المد الصوتي في الغناء لجمله تراه مطرباً مبدعاً في إيصال البعد الجمالي للكلمة المغناة بعرب صوتية طربية، وربما اختلف عليه العديد من مطربي القرن الماضي، واستطاع تصوير ذلك بأنواع الزجل المغنّى.
‏طليع حمدان واحد من المبدعين القلائل الذين حافظوا على قمتهم الشعرية والشاعرية، والصورة لديه مدمجة مع نفسه وذاته، والقصيدة خالدة في روحه وهي تسرقه من جنح الليل إلى ضياء النور بخيوط الشمس السنية.
‏بعد طليع حمدان من يستطيع أن يغني للعطر والزهر والياسمين كما هو، من يستطيع ان ينسج من خيوط الشعر عباءة المجد كما هو بتراث الزجل...؟
‏طليع حمدان لقد رحلت جسداً، ولكن روحك في روح كل انسان عشق الحياة والانتماء والابداع والموهبة الصادقة والوفاء....
‏الرحمة لروحك طليع حمدان... الباقي فينا بإبداعك....