هارب من الدورية
2024.07.01
محمد صباح الحواصلي
كانت السيارة السوداء الفخمة مسترخية باطمئنان على الرصيف. رأيته مختبئاً خلفها.. طفلا ملتحماً بصباراته القليلة التي جمعها أكواماً فوق سحارة.
نظرت في عينيه – ما أدهش أديمهما – جلت في بريقهما الحزين، أبحث عن طفولته. كل شيء غائب في عينيه إلا الخوف.
كان الطفل ينظر إليّ بريبة. أتراه خائفاً مني؟ أم حسبني صاحب هذه السيارة الفارهة؟ أم رأى في عيني حوتا يبتلع الأسماك الصغيرة؟
لا يا صغيري أنا لست منهم. أنا مثلك طفل في أعماقه بحيرة تسبح فيها الأسماك الصغيرة بأمان.. وفيها سماء تحب العصافير والفراشات.
سألته بحدب:
"أنّى لك أيها الصغير أن تبيع صباراتك وأنت محجوب خلف هذه السيارة؟ الناس لن تراك."
"أنا هارب من الدورية."
ثم أشار إلى الشارع وقال:
"كانت تعبر الشارع منذ قليل.. إنها تبحث عنا ولا تريدنا أن نبيع."
"ولماذا لا تريدكم أن تبيعوا؟"
"يقولون إننا نشوه جمال المدينة."
ثم صمت الطفل.. ووجدت يدي تمتد بحنو إلى رأسه تمسح شعره الجميل المبتل بعرق الخوف والهجيرة. ولشد ما أبهجني أن رأيت غمامة الخوف تتبدد في عينيه.
عندها قلت له:
"ما ثمن هذه الصبارات كلها أيها الصغير؟"
وثبَتْ الطفولة الغائبة من خلف الغمامة.. عششت في أهدابه فرحا وضاء.. صارت عصافير, صارت سماء. قال:
"عشرون ليرة يا عمّو.."
دفعت له ثمنها. حمل سحارته وطار. وكم لذني أن أراه كونا من الفرح على الرغم من أنني دفعت له كل ما في جيبي من مال.
**
دمشق ١٢ أيلول ١٩٨٨
من مجموعته "منمنمات على جدران دمشق القديمة" (١٩٩٠)