الرحيل (قصة قصيرة)
2024.10.28
محمد صباح الحواصلي
(إلى الأفق البعيد الرحب الذي طالما تقت إليه وكان من المتعذر عليّ بلوغه…
إلى أبي الدكتور أحمد قدري الحواصلي)
أدنو من يده وأحتويها براحتيَّ. ألثمها ثم ألصقها بخدي, وفيما يده الهزيلة تداعب شعري, تغدقني نفحات رطيبة من زمن الطفولة. كانت يده أصلب, تجري في عروقها دماء الشباب, وكان يدفع بي إلى أعلى.. وتتلقاني يداه.. ما ألذها تلك الدغدغة التي كانت تنساب من أعماقي وأنا أهوي إلى يديه. كان ذلك زمن دعة وإطمئنان, حين لم يكن الموت يشغلنا.
أنهض وأسلم نظراتي إلى وجهه المتعب. أقول له:
لن نغيب طويلا يا أبي.. سنعود وسنمكث بالقرب منك.
لا داعي يا بني, فأنا بخير.
يمد ذراعيه نحو ولدي. يحمله ويضمه إلى صدره المترهل. سألته وقد خالطتني مزيج من نشوة وأحاسيس مبهمة:
هل سرَّك أن سميته على اسمك؟
أصيل أنت يا ولدي.
ثمينة هذه اللحظات. هي التي تبقى من زمن يتفلت كالحلم.
أتملى النظر في عينيه. أعجب لثرائهما على الرغم من خفوتهما وشحوبهما, ويروعني أن ألمح في شفافيتهما طيف وداع. لا بد من الشجاعة في مثل هذه المواقف. أحمل حقائبي وأسير. أقف عند باب غرفته.. ألتفت إليه.. زوجي تقبل يده مودعة.
بارك الله فيك يا بنتي.
سنعود يا عمي.. وإن شاء الله سنراك عن قريب.
يربت بيده على خد ولدي.. نسير جميعا.
إبقَ يا أبي في مكانك.. لا ترهق نفسك.
أريد أن أودعك.
التفتُّ لألوح له من خلف زجاج السيارة. لم أتمكن لأن شجرة التين التي زرعها بنفسه حجبته عني. أحتوي يد زوجي براحتي.. تنظر إليَّ ويفيض دمعنا.
وتستفيق في أعماقي ذكريات بعيدة.
ياه.. ما أعذب أيام الطفولة, وتندفع الأشجار إلى الخلف مسرعة. أمسد شعر ولدي وهو مستغرق في اكتشاف العالم من خلف زجاج السيارة. ذات يوم أمسك أبي بيدي وركضنا. وقفنا على قمة تلة. ضمني إلى ثراء صدره, ومد يده مشيرا إلى البعد.
قال لي: انظر إلى هناك.. وجعلت عيناي الغافلتان تبحثان عما هناك.
هناك بيتنا قرب النواعير.. أتراها؟
بعيد بيتنا يا أبي.. لقد ابتعدنا كثيرا عن البيت!
ولكم شعرت بحاجتي إليه يومها.. هنا إذن البرية حيث تسرح الضباع ليلا. ومن هنا يتناهى إلينا –مع حكايات جدتي- عواء الذئاب. التحمت بجسده.. أنا أحبك يا أبي, ولا أستطيع أن أتركك.
عجبا كيف يباغتنا الزمن. فها هو أول الخريف يحل ويطبع كل شيء بروحه. أقف خلف زجاج النافذة في المدينة البعيدة وأرقب أوراق الأشجار الصفراء وهي تتدافع في الطرقات عند جذوع الأشجار, وهذه الشجرة الباسقة في الحديقة لم يبقَ على أغصانها إلا القليل من أوراقها, كلها آيلة إلى السقوط.
أمسك بالقلم. أكتب: والدي الحبيب حفظه الله.
انشغل. أترك القلم وتنثال الأيام, والأوراق ما تزال على مكتبي. سأكتب اليوم عند المساء.. سأكتب أنني سآتي.
ويأتي المساء. أطلب على الهاتف.. مكالمة من الشام.
وتندفع عبر النافذة أنفاس نسمة تزخم برائحة الخريف.. وتترنح أغصان الأشجار, وتسقط آخر ورقة من الشجرة الباسقة في الحديقة.
(من مجموعته "منمنمات على جدران دمشق القديمة- ١٩٩١)