كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

الأدب كوسيلة لتحرير الطاقات واستثمارها إبداعياً

رُبَّما تبدو عبارة «أدب جنسي» ملغزةً ومتناقضةً بعض الشيء بالمعنى الأخلاقي التقليدي الذي يربط مقولة الجنس باللّا أدب، سواء أكان شفاهاً أم كتابةً، فكلّ ما يمتّ للجنس والجسد بصلةٍ هو عورة ومحرّم وتابو وممنوع من الصّرف والتّصريح به، لأنّه يحاكي الغرائز ويوقظ الشّهوات، ويُذهب العقل، ويخرّب نسيج الفضيلة، ويُغوي العباد، ويُقلق المقدّسات.. ويؤسّس للإباحيّة و..إلخ.

لذلك يجب أن يبقى في المنطقة المعتمة، الرّطبة من الذّهن، نجترّه في السرّ، وإذا تجرّأ وولجَ بوّابة الأحلام والتهيّؤات، وهو سيفعل بالتأكيد ولن يستأذن أحداً كشأن كلّ مكبوت ومقموع، فثمّة شياطين يجب التّعوّذ منها وغواة وشرّيرون مقنّعون، يتربّصون بالكائن التّقي، وسيحاولون جرّه إلى الرذيلة، والضّلال والكفر بالأخلاق الحميدة المتوارثة.

فليكفّر عن ذنوبه بقمعٍ آخر يختاره له من هم خبراء بفن القضاء على الطاقات الخلّاقة!. هذه عيّنة من اتهامات كثيرة تُصيب كلّ من حاول فتح شرفة في الرّيح ليكنسّ غبار الثقافة البالية والقيم المتواطأ عليها، لتغدو أعرافاً أشدّ صلابةً وتكلّساً من الحجر. شرفة تحاول استحضار هواءٍ جديد أنقى، سعياً وراء تخفيفَ الحالة الفصامية التي يعيشها كائن مجتمعاتنا الشرقيّة المغتربة عن ذاتها، وجسدها، وروحها، وهويّتها، فيا أيّها السادة الأتقياء السّريرة، والشّفافون كماءٍ زلال، كفاكم تعامياً عن الحقائق الدّامغة، فلقد آن الأوان لفضح هذا الزيف والازدواجيّة وتعرية المنظومات المغلقة، وكلّ ما من شأنه إحباط عملية الخلق والإبداع الكامنة في طاقات الكائن.

آن الأوان لتنظيم شتات القوى الشبابيّة المهدورة وتوجيهها نحو ما يغني ويفيد، فالاستمرار بإبقاء الجسد والروح في الظّلمات والمجاهيل، وخنق تطلعاتهما ورغباتهما الطبيعيّة جدّاً، لن يساهم إلا بمزيد من التشوّهات الاجتماعيّة والأخلاقية، وسيشكّل التربة الخصبة والحاضنة لكلّ الظواهر الشاذة التي ستبحث عن تحقيقٍ لها بشكلٍ أو بآخر وبكلّ الوسائل الممكنة والغريبة.

الإنسان العربي كصورة لمجتمعه، وثقافته وخيبات مشاريعه التنويريّة المجهضة دوماً، تكاد تكون قضيّة الجنس عموماً، مشكلته الأعقد إلى جانب همومه الاقتصادية والثقافية الأخرى، نتيجة سيطرة الأعراف والعقائد المتخلّفة التي تثقل كاهله وتشوّه روحه ووعيه، وتكبت كلّ ما له علاقة بانفتاحه على الآخر وفهمه. لذلك غدا الخروج من القمقم أشدّ من ضرورة.  سؤال الجنس، يشبه سؤال الحريّة ويضاهيه علوّاً، ورهبةً وجمالاً، فكما الحريّة لابدّ لها من شروط ومناخات سليمة نفسيّة واجتماعية وثقافية، وكائنات تحاول البحث عن توازنها الصّحيّ والسؤال عن ماهيتها وأن تعرف مالها وما عليها، كذلك الجنس والأدب الجنسي كأحد تجليّاته الثقافيّة، سيبقى مشوّهاً إذا لم تؤطر هويّته ضمن السّياق الثقافي والإبداعي التربوي الاجتماعي العام، الهادف لبناء مجتمع سليم بكائنات متوازنة ليكون هاجس المنظومة القيميّة البديلة المنشودة الأساس، هو كيفيّة الارتقاء بطاقات الشباب العربي وتحريرها وتوجيهها لخدمة الحالة الخلاقة المطلوبة منها.

وهذه من المهام الجليلة التي يجب أن تتبنّاها المناهج التربويّة والتّثقيفيّة المعنيّة بتأسيس أجيال لا تهاب مناقشة محرّماتها، وتفكيك منظوماتها العرفية المتوارثة، وكلّ ما يقمع إمكاناتها الخلاقة ويقلّص طاقة الفعل الإبداعي لديها، فما الذي يجعل أغلب الطاقات الشبابيّة تتوجه نحو التدمير والتخريب وتبني الأفكار المتطرفة كما نراه الآن، ألا يتمّ ذلك بوجه من وجوهه، بسبب الطاقات المهدورة في العطالة والبطالة والفكر التّلقيني المخدّر كمحاولة من صاحبه لصنع أسطورة ذاتيّة وهدف حياتي ما؟، ألا يستغلّ دعاة التجهيل والظلام ذلك بما يقدّمونه من حوريّات ومغريات واقعية مادية وجنسيّة، وتبرّعات من مجاهدات النكاح، في محاولة استقطاب طاقات الشباب، وتوجيهها نحو الموت المجّاني، بحجّة الرسالة السامية..؟!، فما المانع أيّها التربويّون والاختصاصيون الاجتماعيون من تدريس مادة الثقافة الجنسية بشكلٍ علمي صريح في المدارس، كمادة أساسية وأخلاقيّة في الوقت نفسه؟ أليس من الأفضل أن يعرف الكائن ذاته وجسده ومتطلّبات روحه وكيفيّة استثمارها بالشكل الصحيح وأن يستعدّ بلا خوف «ذكراً كان أو أنثى» لتحوّلاته الهرمونيّة والنّفسيّة الطّارئة، فأيّهما الأفضل والأصح، أن يحدث ذلك بإشراف المؤهّلين وأصحاب الاختصاص، أم بإشراف الظّلاميين وقوى التّجهيل والموت؟.

من هنا سيكون للأدب الدور الأسمى في إيصال مثل هذه الرّسالة إلى أذهان الناشئة، بحيث تستطيع التغلب على معوقاتها وإحباطاتها وخجلها، وطاقاتها الهاربة إلى وسائل اللهو والاستهلاك. أقول إنّ للأدب مهمّته الكبيرة في هذا المجال شرط اللّا إسفاف والتسطّح والسّعي إلى التكسّب والربح المادي، والإثارة المجانية وإيقاظ الغرائز والشّهوات بطريقة سلبية لا تحترم إنسانيّة الكائن.

قديماً اعتقد الإغريق من عبدة «ديونيسيوس» أنّ الجنس هو الطريق الموصل إلى المتعالي. والقدّيس «بولس» اعتقد أنّ الخطيئة الأولى التي أدين بها البشر هي الطريق الموصل إليه. كما اعتقد أبو الطبّ النفسي «فرويد» أنّ الدافع الغامض وراء كلّ النشاط البشري وجميع الاضطرابات العقليّة مرجعها الإحباط الجنسي. وعلى صعيد الأدب، دشّنت رواية «عوليس» لجيمس جويس عهداً جديداً بهذا المجال رغم بذاءتها.

لكأنّ الكاتب أراد أن يكون بذيئاً ليصدم الناس حيث يسجّل بروايته العبارات التي لا يراها الناس على جدران المراحيض. كما يقول «كولن ولسن» أراد بذلك أن يتحدّث الناس عن روايته وأنهاها  بطريقة شجّعت الآخرين على ارتياد هذا المجال «الأدب الجنسي» الذي ما زال يُكبَتُ حتى الآن. وقد وسمَ النّقاد الرواية بالأهميّة الشّديدة وأنّها تنضحُ بالعبقريّة والأصالة. و تابع «فوكنر» خطا «جويس» الصّادمة ساعياً لضرب قارئه في الصميم، وتلك طريقة البعض في تعميق الإحساس بسلبيّات الواقع وفضح فساد القيم والمعايير المزدوجة والفصاميّة التي تحكمه، وتحريض المتلقّي السّلبي لكسر روتين حياته وتمهيد تربته للأفكار الجديدة. ولعلّ ثورة الأدب الجنسي التي بدأت في خمسينيات القرن الماضي، برواية «لوليتا» لـ «فلاديمير نابكوف» لم تنتهِ. حيث بيعت الرّواية بكثافة للسائحين الأمريكيين في باريس 1955.

هناك الكثير مما يمكن قوله مدحاً بالرّواية وأسلوبها الجيّد، فكاتبها ساخر أصيل، وهي ليست كما رآها البعض مجرّد انحراف لرجل في منتصف العمر، بل هي تفضح كلّ الجوع الجنسي الذي يرى أن الذكر لا يستطيع تحصيله بامرأةٍ واحدة، وهي تنويع على كلمات «هنري باريوس» بروايته «الجحيم»: «ليست امرأة التي أريدها، بل كلّ النّساء».

ولم تسعَ الرواية لتحفيز الإثارات الجنسيّة، مجّانيّاً بل تُركتْ معظم الإشارات والإيحاءات فيها لذكاء المخيّلة، احتراماً لذائقة القارئ. أمّا على الصّعيد العربي فربّما تكون الدكتورة «نوال السّعداوي» من الرّائدات في كتابة هذا النوع من الأدب، «امرأة عند نقطة الصفر» وغيرها.. حيث استطاعت اقتحام التابوات الاجتماعيّة بجرأة علميّة وخلفيّة ثقافيّة متطوّرة، محمّلة مواضيعها الأدبيّة الكثير من المضامين التّحرّريّة العالية وحالات القهر الاجتماعي الممارس على المرأة تاريخيّاً. هكذا لعلّنا نرى بعد هذه العجالة التي طرحت موضوعاً بغاية التعقيد أنّ الأدب يستطيع أن يتنطّح لأعقد المواضيع، ويتخطّى الحدود الحمراء المرسومة من قبل سدنة التّجهيل وحرّاس العقائد الميّتة، ليساهم في ثورة القيم الجديدة الدّاعية لتحرير الطّاقات الشّبابيّة واستثمارها إبداعاً، وإشباعها بكلّ جميل وراقٍ مع المحافظة على وظيفته الأدبيّة بالدّرجة الأولى، وبشرط اللّاإسفاف أو التكسّب المجاني على حساب القيم والنصّ.

 

أوس أحمد أسعد

تشرين