كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

الإسلام السياسي.. التحولات الجيوسياسية والتوظيف الغربي

مروان حبش

منذ انطلاق الربيع العربي في عام 2011، شهد العالم العربي تحولات غير مسبوقة في مجالات السياسة والمجتمع. ومع سقوط بعض الأنظمة الاستبدادية، كانت هناك موجات من الأمل في التغيير الديمقراطي والحرية. ولكن في ظل هذه التحولات، ظهرت أيضًا تطورات معقدة في كيفية توظيف الإسلام السياسي في المنطقة، سواء من قبل القوى المحلية أو القوى الدولية والإقليمية. هذا التوظيف شمل أبعادًا جيوسياسية عميقة تتعلق بصراع القوى الكبرى، وتحول الإسلام السياسي من أداة للصراع إلى أداة للتطبيع.
في بداية الربيع العربي، كان الإسلام السياسي يتخذ شكلًا من أشكال المعارضة الجذرية لأنظمة الحكم الاستبدادية في العديد من البلدان العربية. جماعات مثل الإخوان المسلمين في مصر، وحركة النهضة في تونس، وحزب العدالة والتنمية في المغرب، كانت تمثل أملًا لدى قطاعات من الشعب في تحقيق تغييرات سياسية واجتماعية بناءً على مبادئ إسلامية، وبخاصة في إطار الديمقراطية والحريات السياسية. ومع ذلك، تحولت هذه الجماعات تدريجياً من معارضات سياسية إلى أطراف في عملية التفاوض مع القوى الدولية والإقليمية، وهو ما بدأ يشير إلى تحول كبير في استراتيجية الإسلام السياسي ما بعد الربيع العربي. حيث أصبح في بعض الحالات، أداة للمساومة مع القوى الغربية والإقليمية لتحقيق مصالح محددة.
كان التوظيف الغربي للإسلام السياسي، سواء بوصفه أداة في الصراع أو وسيلة للتهدئة. وبين هذين الاستخدامين، غابت في كثير من الأحيان الرؤية الذاتية المستقلة التي تصوغ دور الإسلام السياسي خارج منطق الوكالة. إن التوظيف الغربي للإسلام السياسي تحكمه البراغماتية الصرف، حيث يُعاد تشكيل الأطر الدينية بما يخدم أولويات السياسة الخارجية، دون اعتبار للنتائج الاجتماعية والثقافية طويلة الأمد. في هذا السياق، لا يُمكن للإسلام السياسي أن يكون حركيًا أو ثوريًا، بل "وظيفيًا" و"مقننًا": أي أن يلعب دور الضامن المجتمعي، والمُسهّل للتسويات، دون أن يكون له مشروع مضاد أو استقلال في الرؤية.
بعد أحداث الربيع العربي، أصبح هناك توظيف غربي متزايد للإسلام السياسي من قبل القوى الكبرى، خاصة الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي. في البداية، كانت القوى الغربية تروج لفكرة دعم الديمقراطية والتغيير السياسي في الشرق الأوسط من خلال إشراك الإسلاميين في العملية السياسية. لكن مع مرور الوقت، اتضح أن هذه القوى كانت تسعى بشكل أكبر إلى استغلال هذه الجماعات كأدوات في صراعها الإقليمي مع قوى أخرى، مثل إيران وروسيا.
في هذا السياق، أصبح الإسلام السياسي في بعض الحالات أداة لتوسيع النفوذ الغربي في المنطقة، لا سيما في البلدان التي شهدت صراعات مثل سوريا وليبيا واليمن. حيث تم توظيف الفصائل المسلحة الإسلامية وفي بعض الحالات، جرى توفير دعم لوجستي وعسكري لهذه الفصائل من قبل الولايات المتحدة وبعض القوى الإقليمية.
من أبرز التحولات التي شهدتها مرحلة ما بعد الربيع العربي هي التحول في خطاب الإسلام السياسي، خاصة فيما يتعلق بالانخراط في التطبيع مع إسرائيل. كانت جماعات مثل الإخوان المسلمين في السابق قد تبنت خطابًا حادًا ضد إسرائيل، مدعمةً بذلك مبادئ الجهاد والمقاومة. ومع ذلك، بدأ هذا الخطاب في التغير بشكل تدريجي.
أصبح بعض الفصائل الإسلامية، التي كانت تدعو إلى الجهاد ضد الأنظمة الطاغية، جزءًا من مشروع سياسي إقليمي دولي يسعى إلى تيسير عملية التطبيع مع إسرائيل. هذا التغيير لم يكن فقط في الخطاب السياسي، بل أيضًا في الطريقة التي تعامل بها بعض الفصائل مع الدول الغربية، وخاصة بعد إعلان اتفاقات التطبيع بين إسرائيل وعدد من الدول العربية في إطار الاتفاقات الإبراهيمية.
هذا التحول كان له تأثير كبير على العلاقات بين الإسلام السياسي والغرب. فبدلاً من أن يكون الإسلام السياسي خصمًا لنظام عالمي بقيادة الولايات المتحدة، بدأ بعض الإسلاميين في الانخراط في هذا النظام، وتبني سياسات لا تمانع من التطبيع مع إسرائيل كجزء من استراتيجية للحصول على دعم سياسي واقتصادي.
تجسد هذا التحول في مناطق كانت حافلة بالصراعات الجيوسياسية بين القوى الإقليمية والدولية، حيث تحولت الفصائل المسلحة إلى أداة في هذا الصراع. في البداية، كانت هذه الفصائل تمثل مجموعة من التيارات الإسلامية والجهادية، ولكن مع مرور الوقت، جرى إعادة صياغة أدوارها ضمن إطار المصالح الإقليمية والدولية.
كانت الدول الغربية، بقيادة الولايات المتحدة، تدعم بعض الفصائل المسلحة، ولكن في الوقت نفسه، كانت هناك دول مثل تركيا وبعض دول الخليج تدعم فصائل أخرى. وفي هذه البيئة المعقدة، أصبح الهدف الرئيسي لهذه الفصائل هو إيجاد مساحة داخل النظام الدولي المتغير، بما في ذلك من خلال محاولة تطبيع العلاقات مع القوى الكبرى التي كانت تدعمها.
مع تطور الاتفاقات الإبراهيمية (التي بدأت في عام 2020)، ظهرت ملامح من إعادة تشكيل الجغرافيا السياسية في الشرق الأوسط. اتفقت دول مثل الإمارات العربية المتحدة، البحرين، السودان، والمغرب مع إسرائيل على تطبيع العلاقات، وهو ما مثَّل تحولًا جوهريًا في السياسة الإقليمية.
هذا التحول في العلاقات جعل من الإسلام السياسي أداة محتملة في عملية التطبيع، في دول من الوطن العربي. العديد من الفصائل المسلحة التي كانت في السابق تنبذ فكرة التطبيع، بدأت ترى في دعم القوى الإقليمية والدولية سبيلًا لتحقيق مصالح سياسية، حتى وإن كان ذلك يعني القبول بتوجهات قد تكون في السابق مستحيلة.
في ظل هذه التحولات الجيوسياسية، لا يمكن تجاهل الأزمة الفكرية والسياسية التي يعاني منها الإسلام السياسي. ففي مرحلة ما بعد الربيع العربي، تراجعت الأيديولوجيات القديمة التي كانت تدعو إلى إقامة دولة إسلامية شاملة. بينما ظهرت بدائل تتبنى مواقف أقل تشددًا تجاه القضايا الإقليمية والدولية، وهو ما يشير إلى تحول كبير في التفكير الإسلامي السياسي.
هذه التحولات الفكرية لم تقتصر فقط على الإسلاميين المعتدلين، بل شملت حتى التيارات الأكثر تطرفًا "الجهادية"، حيث بدأ بعضها في التقارب مع القوى الغربية والإقليمية الكبرى في إطار موازنات سياسية جديدة. مما يعكس فقدانًا تدريجيًا للهوية السياسية المستقلة التي كانت سمة رئيسية للإسلام السياسي في القرن العشرين.
إن التحول من "الجهاد ضد الغزو" إلى "التسهيل للتطبيع" لا يعكس فقط تغير في السياسات الدولية، بل أيضًا أزمة عميقة في الفكر السياسي الإسلامي، الذي بات يتأرجح بين الثورية الزائدة والبراغماتية المفرطة.
أصبحت الهوية السياسية الإسلامية في حالة ضبابية، حيث تواجه الحركات الإسلامية اليوم تحديًا مركزيًا يتمثل في فقدان الهوية السياسية المستقلة. فمنذ عقود، إما أن تُوظّف كأداة مقاومة ضد خصوم الغرب (السوفييت، لاحقًا إيران)، أو يتم ترويضها وتقديمها كقوى "معتدلة" قابلة للاندماج في مشاريع التطبيع والتسوية. هذا الوضع يجعل من الإسلام السياسي، في كثير من تجلياته، فاقدًا لمبادرة الفعل، وغير قادر على إنتاج مشروع ذاتي جامع بين القيم الإسلامية ومتطلبات العصر.
لقدشهد الإسلام السياسي ما بعد الربيع العربي تحولات عميقة على المستوى الفكري والجيوسياسي، حيث انتقل من أداة مقاومة وصراع إلى أداة تسهيل للتطبيع مع إسرائيل وموائمة للسياسات الدولية. وكانت الفصائل المسلحة جزءًا من هذا التحول الجيو سياسي، حيث تم توظيفها في صراعات متعددة من قبل القوى الكبرى. وفي النهاية، لم يؤد هذا التحول إلى تغيير في السياسات الدولية فحسب، بل إلى أزمة عميقة في الفكر السياسي الإسلامي وفقدان الهوية السياسية المستقلة.
يتقاطع هذا التحول مع رؤية "الشرق الأوسط الجديد" التي تسعى الولايات المتحدة وعدد من الدول العربية إلى بلورتها، في إطار اتفاقيات إبراهيميّة تقوم على دمج إسرائيل في الفضاء الأمني والاقتصادي للمنطقة، وتجاوز الأيديولوجيات الراديكالية أو الثورية التي كانت سائدة في العقود السابقة.