حقول طائفية 3
2025.04.22
عبد الكريم الناعم
مدخَل فاجع
تتباعد الأزمنة، وتتشعّب الأحداث، وتأخذ ألوانا متعدّدة، ويظلّ ما هو جوهريّ جوهريّاً، إنْ سلبا، وإن إيجاباً،
في سياق ما نحن بصدده، كان فاجعا حين إعلان استشهاد السيد حسن نصر الله، أنّه في بعض أسواق حمص، وفي بعض أحيائها، وفي بعض قراها، خرج البعض يوزّع الحلوى ابتهاجاً، وما دام هذا حدث في حمص، فهو لاشك حدث مثله في غيرها، في سورية وخارجها، فأيّ سقوط وطني وعروبي وإسلاميّ هذا؟! فهل مَن يفعل ذلك يستحقّ أن يُطلَق عليه أنّه عربيّ، أو مُسلِم، أو حتى إنسان، بينما تمتلئ شوارع الغرب بالذين يحتجون على الإبادة المستمرّة التي ترتكبها الولايات المتحدّة وإسرائيل في فلسطين وجنوب لبنان؟!!
كيف يُمكن تفسير هذا إلّا بأنّ ثمّة جرثومة طائفيّة، مذهبيّة عمياء، ما تزال تفعل فعلها، في أوساط بعض المثقفين، كما في أوساط مَن لا نصيب لهم في الثقافة والعلم؟!!
تُرى من أين اتى كلّ هذا الضخّ، أمن التربية البيتية، أم من المساجد، والفضائيات التي اشتغلتّ على هذا الموضوع، أم من مخابرات الغرب الخبيثة التي تعمل في الخفاء، وما زالت؟! ولا أقول إنّ هذا خاصّ بالسنّة، وإن كان الأعلى أثرا، فثمة بين الشيعة من يقذفون بأقوال تؤجّج تلك النّار،
*******
في الثامن من آذار 1963، كان حزب البعث قد أصبح أكثر من تنظيم،
تنظيم أكرم الحوراني، وكان من أشدّ دعاة الانفصال، بل واتّهم، هو ومَن حوله من أسماء كانت بارزة في حزبه.. اتّهم عبد الناصر بأنّه عميل للأمريكان،!!
تنظيم ما سُمّي بالقيادة القوميّة، وعلى رأسه القائدان التاريخيان في الحزب ميشيل عفلق، وصلاح البيطار، ومَن معهما من بقايا الرعيل الأول والثاني في الحزب،
تنظيم سمّي بالقطريّين، وهم متطرّفون نحو اليسار، ومعظمهم من دير الزور،
كان التنظيم القومي هو الواجهة السياسية للسلطة، بينما كانت اللجنة العسكريّة هي الفاعل الرئيس فيما يتعلّق بشؤون الجيش، واختير العقيد لؤيّ أتاسي رئيسا لمجلس قيادة الثورة، بعد ترفيعه إلى رتبة فريق، وعُيّن النقيب محمد ابراهيم العلي مرافقا له،
بعد فترة لم تطل لم يستمرّ التعاون مع الكتل الناصريّة، فانسحبوا من السلطة، أو دُفعوا إلى ذلك، أمّا العميد زياد الحريري والذي لم يكن محسوبا على أيّ حزب، فقد عُيِّن سفيرا في أحد البلدان بينما كان في سفرة خارجيّة،
لقد سعى البعث في سورية والعراق لإقامة وحدة مع عبد الناصر، ويبدو أنّ ناصر وجد نفسه غير مُطلَق اليدين كما اعتاد، بمشاركة قطرين يحكمهما حزب واحد،
كان الناصريون يطالبون بإعادة الوحدة، ومن ثمّ يجري الكلام في السلبيات التي كانت فيها قبل الانفصال، وكان البعثيون يريدون الوحدة بعد الاتفاق على تعديلات تزيل تلك السلبيّات،
بعد أربعة أشهر تقريبا قام الناصريّون بهجوم عسكري على مبنى الإذاعة والتلفزيون لدمشق، للاستيلاء عليه، وإذاعة بيان رقم 1، كان هذا في الوقت الذي كان فيه وفد من قبل البعث الحاكم في سوريّة في القاهرة لإجراء مباحثات تتعلّق بإعادة الوحدة، وأبرز مَن كان فيه الفريق لؤي أتاسي واللواء محمد عمران، وآخرون، وقد قيل إنّ الاجتماع بناصر كان مُقرّراً في الساعة العاشرة صباحاً، فأرجأه ناصر، بانتظار ما ستُسفر عنه حركة 18 تموز في دمشق، وقد فشل الهجوم، والمؤكَّد أن المخابرات آنذاك قد علمتْ بهذا التحرّك فأعدّتْ له القيادة عدّته، ودليل ذلك أنّ الرائد محمد نبهان الضابط الناصري قد اعتُقل قبل القيام بالتحرّك بأقلّ من أربع وعشرين ساعة، ويُعتَبر دينامو الحراك النّاصري،
حدّثني الرائد (آنذاك) أحمد خضور أنّه ذهب هو واثنان من رفاق محمد نبهان القدامى، إلى سجن المزّة، وعاتبوه على تخلّيه عن رفاقه البعثيين، وأنّهم يريدون مساءلته حزبيّا قبل أن يسائله القضاء، فنزلت دمعتان من عيني نبهان،
لأوّل مرّة سالت الدماء في سوريّة في صدام عسكريّ، وشُكِّلت محكمة ميدانيّة، وصدرت الأحكام خلال ساعات، وأعدم عدد من الضباط وصفّ الضباط، وفيهم علويّون،
حين وصل الوفد عائدا من القاهرة كان بين المستقبلين النقيب محمد إبراهيم العلي، باعتباره مرافقا للفريق الأتاسي، وفور نزولهم من الطائرة تقدّم النقيب العلي وحيّاهم، وتوجّه بالكلام للفريق رئيس الوفد وقال له: "حتى الآن تمّ إعدام كذا متآمر سيدي"، وذكر العدد، فقال له الفريق: "الله لا يبشرك بالخير"
في تلك الفترة بدأ نجم أمين الحافظ الذي كان وزير داخلية، وحاكما عُرفيّاً، وكان شديدا في تعامله،
نُقل عن أمين الحافظ في بداية تسلّمه مهامّه موضوع وجود أعداد ملحوظة في الجيش من العلويّين، فأجاب بما معناه: "وما المانع أن يكون جيشنا كله منهم، نحن حزب عقائدي"،.. الذي قال هذا الكلام، حين عاد حزب البعث إلى السلطة مجدّداُ في العراق عام 1968، وسافر امين الحافظ وأقام في بغداد،.. حدّثني مطرب حلبيّ كان عائداً من العراق بعد إقامة عدّة حفلات على مسارحها..، حدّثني، وكان ذلك في ثمانينات القرن الماضي أنه دُعي لسهرة في بيت، وكان حاضرا أمين الحافظ، وبعد أن تناول بعض الأقداح، انفعل وقال يتهدّد ويتوعّد، ويُقسم بالله إنّه "إنْ عاد إلى السلطة فسيفلت الجيش في جبال الساحل، وسيطلب منه أن يفضح النساء بدء من التي عمرها عشر سنوات حتى العجائز"، قالها المطرب لي بكثير من الألم والأسف، فكيف حدث هذا الانقلاب،؟
أشير إلى أنّه في بداية الثامن من آذار 63 سرى في الشارع المناوئ مصطلح (عَدَس)، وتعني علوي- درزي –اسماعيلي، إشارة إلى وجود عدد من الضباط البارزين منهم في صفوف الجيش، وأنا لا أعلم ما إذا كان في المجلس العسكري الفاعل الأول أي ضابط من (السنّة)،
حاول جناح القيادة القوميّة أن يحتوي بعض ضباط المجلس العسكري، وقد التقيتُ بالأستاذ ميشيل عفلق الأمين القومي العام للحزب، في بيت اللواء محمد عمران، ومن خلال الحوار الذي دار مرّ ذكر أمين الحافظ، فابتسم الأستاذ ميشيل ابتسامة ذات مغزى، وقال بطريقته المعروفة البالغة الهدوء.. قال ما معناه "قطيع الماعز يكفيه فحْل واحد"، الذي قال هذا الكلام بعد فترة لم تطل احتضن أمين الحافظ، وصار الحافظ أحد أعمدة جناح القيادة القوميّة،
المؤكَّد أنّهم لم ينجحوا في ذلك مع اللواء عمران، فأمثال عمران هم الذين يَحتوون الآخرين، ولا يُحتوون،
حين اشتدّ الخلاف بين جناح القيادة القوميّة، والقيادة القطريّة للحزب، والتي كان يسيطر عليها جناح اللواء صلاح جديد، والذي نجح في إعادة جماعة "القطريين" إلى الحزب، وكانوا سنداً داعما له،.. كان لا بدّ من الحسم بالنسبة لأحد الأطراف،
أستطرد قليلا، دُعينا لمؤتمر قطريّ، في مرحلة باكرة، عُقِد في قاعة مجلس الشعب الحالي، وفي إحدى الجلسات وقف رائد بحريّ اسمه عبدو الديري وقال ما معناه: "يا رفاق، إذا استمرّ الحزب كما هو عليه حالياً في اللاذقية فسنكون أمام حزب إخوان، بوجه آخر" بمعنى أنّه سيكون حزباً للعلويين، فردّ عليه كامل حسين أمين فرع الحزب في اللاذقيّة بهدوء، وقال ما معناه: "ماذا نفعل إذا كان مَن ذكرتَ يشكلّون النسبة العظمى في المحافظة؟ في حوران المنطقة التي أنت منها، تُعتَبر خزّاناً للحزب، فهل نقول إنّ الحزب في حوران حزب أخوان"؟ وكان ذلك أوّل حديث يدور في العلن حول الطائفيّة،
العلاقات بين القيادة القوميّة للحزب، وقيادة الحزب القطريّة في توتّر، وقد تمكّنت القيادة القوميّة من كسْب أمين الحافظ الذي صار رئيسا للدولة بعد استقالة الفريق لؤي أتاسي، والذي، كما أعتقد وجد نفسه واجهة محترَمة، وأنّ القرارات الفعليّة هي للمجلس العسكري، فلم يقبل بذلك، استقال وغادر دون احتجاج،
المؤيّدون للقيادة القوميّة من الضباط في الجيش، معظمهم لم يكن تأييدهم لشخص، بل هو (لشرعيّة القيادة) التي يجب أن تُحترَم، وهؤلاء كانوا من مختلَف الطوائف، وحين حدثت حركة شباط 1966 أبعدتهم عن القوات المسلّحة، وأُرسل عدد منهم إلى الخارجيّة السوريّة،
في خضمّ تلك الأحداث عُيّن اللواء حافظ الأسد وزيراً للدفاع، وهي وزارة كان يُشرف على تحريك الضباط فيها، وتنقّلهم المجلس العسكري، فاشترط اللواء حافظ الأسد على رفاقه أن تُطلّق يده في كلّ ما يتعلّق بشؤون وزارته، وهو أحد أعمدة تكتّلهم، ومن أبرز ضباط الجيش، وقال البعض إذا كنّا لا نثق ببعضنا فبمن نثق؟ وهذا ما سهّل للأسد فيما بعد، وهو ما قد أتعرّض له لاحقاً، أن يُمسك بقيادة الجيش بشكل لا يستطيع أحد التدخّل فيه،
اشتدّ الخلاف، وبدأت نُذر ما لا تُحمَد عقباه، بين كُتلتي أمين الحافظ ممثِّلا القيادة القومية، واللواء صلاح جديد، فدُعينا إلى مؤتمر طارئ،
بدأ الكلام أمين الحافظ، وتحدّث عن الشرعيّة، وعن الحزب والالتزام، وما إلى ذلك، ولن ينس أن يسمّي بالاسم صلاح جديد، فطلب الكلام صلاح جديد، وبدأ بلغة فصيحة، وأفكار متسلسلة، يعرض لمسألة ما يعاني منه الحزب، مشيرا إلى السلبيّات، دون تسمية أحد، وتكلّم لمدة تزيد على الساعتين، فرُفعت الجلسة لنتناول سندويتشا وكأس شاي في بهو المجلس، في فترة الاستراحة، جلس بجانبي رفيق صديق، فقال لي ما معناه، "أخي لماذا هذا الطويل العريض، أنا رأيي أن يضعوا رجْلهم في ظهر صلاح جديد ويكبّوه خارج سورية وستنتهي الأزمة"، شممت رائحة كريهة، فقلت له ما معناه: "الأزمة أكبر من ذلك، أبعدوا محمد عمران، فهل انتهت الأزمة"؟ قاطعني وقال لي بالحرف: "أنا ينزل الله بذاتو ويقلّي في علوي وطني بقلّو كذّاب"، تماسكت وقلت له: "هذا كلام يحتاج للكثير من النقاش"، وقمت مدركا أنه لا يعرف أنني مولود من أبوين علويين، ومشيتُ وانا أغلي من الداخل، على غير اتّجاه، فصادف أن مررتُ بقرب ثلاثة أشخاص لم أعد أذكر منهم إلّا اثنين، إبراهيم ماخوس، ويوسف زعيّن، ففتح الدكتور ابراهيم ذراعيه واستوقفني، وسألني ما رأيك بهذا المؤتمر"؟ فقلت له: "خرا"، فقال لماذا تقول هذا الكلام"؟!! قلت مؤكِّدا "لأنه خرا"، وتابعت "أنا الآن سمعتُ من رفيق، عضو مؤتمر، يُفترَض أنه بمستوى معالجة الأزمة يقول لي كيت وكيت، والآن بمجرّد انعقاد الجلسة سأطرح ما سمعتُه"، فأمسك بيدي الدكتور إبراهيم، وآزره في كلامه الدكتور زعيّن، ورجاني بما يشبه التوسّل ألّا أطرح هذا الأمر، فالأمور على درجة كبيرة من الخطورة، وهي لا تحتمل مثل هذا الكلام، وقلت في نفسي لعلّ رفاقنا في القيادة لديهم من المعطيات والمعلومات ما لا نعرفه، ولا أريد أن أكون صاعق تفجير، فوعدتهم بعدم الإثارة، أمسك بيدي الدكتور زعيّن وقال لي: "سيتمّ في النهاية انتخاب قيادة قطريّة جديدة، فرشّح نفسك"، قلت: "لن أرشّح"، قال: "نحن نريدك"، قلت "لن أرشّح"، قال: "أنا سأرشّحك"، قلت: "سأنسحب"، قال: "لن تنسحب نحن نريدك"، قلت: "لن أرشّح"،
عدنا لقاعة الاجتماع، فتابع اللواء جديد الكلام لمدّة أكثر من ساعتين، وحين انتهى، طلب الكلام الرفيق منصور الأطرش، وهو من جناح القيادة القوميّة، وقال ما معناه، "اكتشفنا اليوم موهبة خطابية جديدة لدى رفيقنا صلاح جديد، الذي سلسل أفكاره بلغة سليمة، وترتيب عال، وهو الذي ظلّ دائما يجلس في الصفوف الخلفيّة، ولا يتكلّم بشيء"، وصرخ بصوت عال: "يا رفاق الأزمة عملاقة، وتحتاج إلى حلّ عملاق، وأنا أشير بإصبع الاتهام إلى كلّ من الرفيقين أمين الحافظ، وصلاح جديد، وأحمّلهما مسؤوليّة ما سيجرّانه على البلد من خراب"،
وجرت انتخابات قيادة قطريّة، ورشّحني يوسف زعيّن فأعلنت انسحابي، وكان بجانبي، فجدّف، وقام غاضباً
..................................................................
أرسل في 15/10/2024