دور المآسي بالوعي في هُويّة علوية
2025.04.15
عيسى ابراهيم
كان الانتماء إلى الطائفة العلوية سابقاً مجرد تفصيل عائلي في السير والأحاديث اليومية. شيء يُقال حين يُسأل عنه، بل يُحاوَل تجنب ذكره في كثير من الأحيان لأن الانتماء الإنساني الذي يتغلغل في عمق شخصية العلوي والعلوية يجعلهما يميلان إلى التركيز على الإنسانية انتماءً وسلوكاً و "ديناً" و"طائفةً".
لم يكن العلويون بحاجة إلى الإعلان عن أنفسهم. كانوا يمشون بخفة في الجغرافيا السورية، كأنهم جزء طبيعي من تضاريسها: جبال، ووديان، وقرى مغمورة بالضباب، وقصص لا تُروى في أغلب الأحيان إلا همساً لا جهراً، لكن المجازر تغيّر شكل الذاكرة وتعيد بناء الوعي الجمعي. والموت الجماعي حين يتكرر، يصنع هوية جديدة .. أو بالأحرى يعيد بناءها.
منذ المجازر المرتكبة في بانياس عام 2011 (الجريمة الجماعية المرتكبة بحق الشهيد نضال جنود وتعذيبه وقتله والتنكيل بجثته) وفي عدرا العمالية وقرى شمال اللاذقية (من ضمنها قرية بارودة وقرى أخرى) في عام 2013، وتفجير مدرسة عكرمة المخزومي في حمص في عام 2014 وتفجيرات طرطوس وجبلة في عام 2016، وصولاً إلى عمليات التطهير العرقي والإبادة الجماعية التي بدأت في كانون الأول من عام 2024 وازدادت حدتها في 7 آذار 2025، لم تكن الدماء مجرد ثمن، بل كانت مرآةً للماضي الأليم.
وشيئاً فشيئاً بدأت تتكوّن ملامح انتماء جديد. ليس مذهبياً فقط، ولا دينياً، بل أشبه بهوية قومية ناشئة، تنمو من رحم الجراح الجماعية لتعيد إحياء الجذور الإنسانية العميقة في الذات العلوية.
هذه الهوية لم ترفع شعارات ولم تطلب اعترافاً. إنها تظهر في التفاصيل الصغيرة: في لهجة الجبل، وفي المواويل والأغاني المنسية، وفي الحكايات التي تُروى بصوت منخفض، وفي طقوس الفرح والعزاء، وفي ملامح المعاناة والأمل، وفي أغصان الزيتون وبيادر القمح و"حواكير الدخان" وخبز التنور و"البرغل بحمص" و"الزحيلوطات" والخصائص الأخرى التي حاول النظام السابق طمسها لسنوات مستبدلاً عمقها الروحي بصورة سطحية ملوثة بالفساد والتشويه.
الثقافة التي كانت تعني البساطة والنبل والكرم والفكر المتقد الذي يعبر حدود العالم حوّلها الإعلام الرسمي السابق إلى "كليشيهات" خاوية وسطحية ظالمة، وحوّلها الخصوم إلى مادة للكراهية. ومع ذلك، استمرت في مكان آخر، محفوظةً في الذاكرة والوعي الجمعيَّين جيلاً بعد آخر.
اليوم بعد المجازر الأخيرة، يتغير شيء أعمق من مجرد موقف سياسي واجتماعي معلن أو غير معلن، إذ يتكوّن شعور جمعي بضرورة التعريف بالذات. وكأن العلويين، لأول مرة، يقولون: نحن هنا. لنا ذاكرة، وثقافة، وهوية، ورموز، ودماء، وتاريخ طويل من المجد والحضارة، ولسنا مجرد تفصيل عابر في معادلة وطنية هشة.
ما يحدث الآن ليس فقط ردة فعل من المجتمع العلوي على جرائم ممنهجة متتالية، بل نهوض هوية. هوية تتجاوز الجغرافيا والطائفة، وتستلهم من النجاة المتكررة معنى البقاء الأصيل. هوية تنظر إلى نفسها دون خجل أو إنكار، وتحاول أن تبني من بين الركام سردية عادلة ومتفردة.
تنمو هذه الهوية كما تنمو أشجار البطم والتين والحور والسنديان.
ببطءٍ، وعمق، وصمت، لكنها في النهاية، ستثمر زهوراً يانعة وشمساً مشرقة وعصافير حرة تطير في الأعالي وتغني أنشودة الجبال والوديان.