كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

سرد قد لا يعجب الكثيرين..

معن حيدر

 عند بوّابة المجمّع الذي نسكنه توقّفتُ لقراءة تنويه علّقته شركة السكن، مرّ أحد القاطنين في المجمّع، وهو من رَبْعنا (أي من مشرقنا التعيس)، وسألني: شو بدهن؟ قلتُ له: منشان تقنين استهلاك الميّ بالصيف
هز رأسه مستهترا، وقال وهو يكمل سيره: إي كل هالميايا (جمع ميّ) وبدّن يّانا نقنن.. إي عندن ميّ من هون ليوم القيامة..
في صندوق البريد وجدتُ التنويه نفسه، قرأته في المنزل على مهل وكان فيه مقترحات حول كيفية تقليل استهلاك المياه في الجلي والحمام والتنظيف، مع طلب إرسال مقترحات أخرى مقابل جائزة تقدّمها شركة إيكيا للمفروشات.
++أخذني تفكيري مباشرة إلى مرحلتين زمنيتين في يبرود:
منذ القِدم كان هناك نهران (هما أشبه بساقيتين)، يغطّيان احتياجات الأهالي من المياه: ريّ الأراضي الزراعية وسقاية حدائق المنازل وجلي وتظيف، وكان في كل حارة سبيل ماء يغطّي احتياجات الشرب والطبخ والغسيل.
وعايشتُ في فترة نهاية الخمسينيات معاناة الأهالي، وخاصة النسوة، في حمل الأواني لجليها في النهر وإعادتها، وفي نقل المياه من النهر ومن السُبل إلى البيوت.
-ورغم ذلك كانت يبرود بمجملها (نظيفة متل الفلّة) في داخل البيوت وخارجها في الشوارع والحارات والأزقة.
++بدأت المياه تدخل إلى البيوت منذ منتصف الخمسينيات، واكتمل دخولها مع نهاية الستينيات.
وبدأتْ مرحلة جديدة، وبدأت تظهر معها ثقافة الهدر والاستهتار بالماء بشكل فظيع، وكنت أسمي ذلك (التعسّف في استهلاك المياه) في كل شيء: التنظيف (حيث حلت البرابيش والخراطيم مكان السطل) والجلي والغسيل والشرب (حيث تُفتح الحنفية نصف ساعة لكي تبرد الماء).
وريّ الأراضي الزراعية وسقاية حدائق البيوت والمزارع وتعبئة المسابح وغسل السيارات....
-ورغم ذلك كانت النتيجة أنّ البيوت بقيت على نظافتها في الداخل، بينما الشوارع أصبحتْ...مزبلة للأسف!
++ ورغم أن التصحّر بدأ يضرب المنطقة منذ الثمانينات، فجف النهران ونبعتاهما قرينة واسكفتا.
ورغم مرور أزمات مياه خانقة عديدة في يبرود منذ التسعينيات، إلا أنّ الأهالي لم يغيّروا من تلك الثقافة.
بل كانوا في كل مرة، يُوّجهون اللوم (بل والمسبّات) لرئيس البلدية ورئيس وحدة المياه، وبس...
++وما حصل في يبرود هو نموذج لما حصل في بلدات ومدن سورية ودول مشرقنا كلها.
+وأذكر هنا على سبيل المثال والطرفة، أنّ أحد المستخدمين في هيئة الإذاعة والتلفزيون كان يترك حنفية المغسلة مفتوحة طوال الدوام (قال هو يطرب بصوت الماء)، فقلت لمحدثّي: آخ لو كنت بهديك الفترة مدير عام كنت نقلته هو ومعلمه لشي محطة بث بالصحرا.
+وأذكر ما رواه لنا صديقنا التاجر: أنّه جلب من أحد المعارض، نموذجا للتجربة لآلة غسل الخضروات والفواكه والسلَطات في المطاعم والفنادق، توفّر في استهلاك المياه بشكل كبير وتعقّم في الوقت نفسه.
وأبلغ أصحاب المطاعم والفنادق ووزارة السياحة وغرف التجارة...
ومرّتْ خمس سنوات ولم يأت أحد حتى لرؤيتها وتجربتها.
+أيضا، كلنّا يذكر أزمة المياه الحادة في دمشق، وكيف أجبرت الأهالي على تغيير عاداتهم وثقافة الهدر لديهم، بل صاروا يخترعون طرقا للتوفير في استهلاكها، وعرفوا قيمتها.
ولكن للأسف بمجرد أن عادتْ المياه.. رجعوا كما رجعتْ حليمة لعادتها القديمة.
++ولا تقتصر ثقافة الهدر على المياه فقط بل تعدّتها إلى البيئة كلها، من الصيد الجائر للطيور والأسماك إلى الرعي الجائر إلى قطع الأشجار والتحطيب والتفحيم (صناعة الفحم).
+وهنا لا بد أن نسجّل غياب دور وزارة التربية والمنظمات الشعبية ورجال الدين تماما في الثقيف والتوعية في هذا المجال.
+وكذلك لا بد أن نسجّل غياب الرؤية الاستراتيجية والخطط لدى الدولة والحكومات في التصدّي لظاهرة التصحّر ووضع سياسات زراعية ومائية مدروسة وعملية وقابلة للتنفيذ، ولكن يسجّل لها إنشاء السدود السطحية وحملة التشجير.
+ورغم وجود ثلاثة مراسيم متشددة في منع: حفر الآبار الخاصة ومنع قطع الأشجار ومنع التخين و(الأركيلة خاصة) في الأماكن العامة، إلا أننا نلمس في النتائج أنّها كانت مراسيم سماح وتشجيع، لأسباب كلّنا نعرفها.
++أخيرا قالت لي زوجتي: شو بدنا نكتبلن لشركة السكن مقترحات، يمكن يطلعلنا شي شغلة حلوة من إيكيا؟
قلت لها: بدي أكتبلن لا تعذبوا حالكن... الثقافة متجذّرة.
و لا تواخذونا... و لا تسبوا.