كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

بدلاً من صفر عيد ميلاد صار عندنا ثلاثة

د. جوليان بدور

عيد الميلاد هو الذكرى السنوية لميلاد الإنسان. هذه الذكرى تحولت في كثير من المجتمعات، وخاصة الغربية، الى مناسبة يتم الاحتفال بها من قبل الأحبة والأقارب والأصدقاء ويتم خلالها تقديم الهدايا للشخص المعني، وعلى عكس المجتمعات الغربية، المجتمعات الشرقية لم تكن تولي، حتى تاريخ حديث، هذه الظاهرة أي أهمية تذكر. لكن ظهور وسائل التواصل الاجتماعي، خاصة الفايسبوك، أدى إلى انتشار واسع النطاق لهذه الظاهرة في المجتمعات الشرقية بما فيها المناطق الريفية.
لكن حتى تحتفل بعيد ميلادك، عليك ان تعرف اليوم والشهر والسنة التى ولدت فيها. الكثير من الناس، وخاصة سكان القرى الريفية لم يكونوا يعرفون تاريخ ميلادهم بسبب عزلة قراهم وأمية آبائهم. فمثلًا انا لا أعرف بالضبط اليوم أو الشهر أو السنة التي ولدت فيها. وفق ما قالته لي والدتي المرحومة (أم وحيد)، التي كانت تعتمد التقويم الشرقي، أنني ولدت في ١٧ حزيران وليس في ١٨ كانون الثاني كما هو مسجل على الهوية.
لم يكن عندي أي مشكلة تذكر طالما كنت ساكناً بسورية كوننا لا نحتفل بهذه المناسبة. لكن منذ قدومي الى فرنسا، تغير الوضع جذريًا. نظرًا للدهشة والاغتراب الذي كان يثيرها قولي بعدم معرفة تاريخ ميلادي بالضبط، لذا قررت من بعدها اعتماد التاريخ الذي أخبرتني عنه المرحومة والدتي وهو ١٧ حزيران للاحتفال بعيد ميلادي.
لكن إذا قبلنا بفكرة إن عيد الميلاد يحدد ايضاً تاريخ تعلم الإنسان من الصفر لغة البلاد وعاداتها وتقاليدها، فأنا أعتبر نفسي بأنني صاحب ثلاثة أعياد ميلاد وليس عيد ميلاد واحد كما هو الحال عند الغالبية العظمى من الناس.
عيد ميلادي الأول هو عندما بصرت النور في بلد المنشأ سورية حيث تعلمت لغة بلادي واكتسبت عاداتها وتقاليدها. هو عيد الميلاد الأهم بالنسبة لي، ليس فقط لأنني ولِدت فيها وأبصرت النور، لكن بسبب القيم والمبادئ النبيلة والإنسانية التي لقننّي إياها والداي والتي زرعت بقلبي وروحي ونفسي مبادىء التسامح والوفاء والمحبة والتواضع والاحترام والصبر والعمل وتمني الخير للجميع.
أما عيد ميلادي الثاني فقد حدث عند قدومي إلى فرنسا في ٤ تشرين الثاني عام ١٩٨١، ومكوثي فيها ١٥ عشر عامًا. مجيئي الى فرنسا هو بمثابة ولادة ثانية لي، لأنني بدأت حقًا من الصفر في تعلم اللغة الفرنسية وإكتساب عادات وتقاليد مجتمع مختلفة جذريًا عن التي تعلمتها في بلد المنشأ. بالرغم من كونها ممتعة وشيقة في بعض حلقاتها، إلا أن هذه المحطة كانت الأكثر صعوبة ومشقة بسبب قساوة الحياة بالغربة وضخامة المهام والمسؤوليات التى كانت تنتظرني كالحصول على دكتوراه بالاقتصاد.
أما الولادة الثالثة فهي تمت عند قدومي في ٦ ايلول عام ١٩٩٦ الى جزيرة ريونيون الاستوائية القابعة في وسط المحيط الهندي والتي تبعد عن باريس حوالي عشرة آلاف كم. إنها الولادة الثالثة لكوني بدأت حقًا من الصفر في بناء حياتي العائلية والمادية والمهنية. بالرغم من صعوبات التأقلم على المناخ الاستوائي والشعور بأنك بعيد عن كل الدول أي أنك في نهاية العالم، إلا أنها كانت الأكثر أريحية ومتعة ونجاحاً لأنني أولًا أثبتت جدارتي ونجاحي في مهنتي وتمكنت من إنجاز الكثير مما كنت أحلم به في شبابي مما زاد من محبتي وتعلقي بهذه الجزيرة فائقة الجمال والتي تتميز عن غيرها بجمال طبيعتها وتسامح سكانها ونوعية مناخها.
بقي عليّ القول بأنه إذا ما كتب الله لنا الحياة، فمسيرة حياتي لن تتوقف هنا. فأنا أحلم بالحقيقة بعيد ميلاد رابع (ثلاثة ما عاد يكفوا) ألا وهو يوم عودتي القريبة إلى بلدي وإلى قريتي لبدء حياة التقاعد وقضاء معظم وقتي هناك. فبعد خدمة البلد الذي استقبلني بكل جدّ وشرف وإخلاص أودّ الآن وضع خبرتي ومعرفتي المتراكمة وفهمي في اختصاصي بالعلوم الاقتصادية في خدمة شعبنا وبلدنا الغالي الذي يمر بظروف استثنائية حالياً.
أخبراً بقي عليَّ القول بأن أمنيتي أنّ أقضي آخر أيام عمري في بلدي وقريتي وأن أرْقُد والى الأبد بجانب من أنجبني ورباني لكي أنعم بدفئهم وعطفهم ومحبتهم.
كما ترون مسيرة حياتي لم تكن نهرًا هادئًا على الإطلاق، هي مكونة من عدة محطات، كل واحدة منها تختلف جذريًا عن الأخرى بميزاتها وإنجازاتها وقساوتها ونعومتها. لكن المحطة التي صقلت شخصيتي والتي تشكل مصدر فخري واعتزازي هي المحطة الأولى أي ولادتي في بلد هو بالنسبة لي من أجمل وأعرق البلدان في العالم، عند أسرة ريفية لقْنتني من نبل القيم والمبادئ ما عجزت عنه أكبر وأعرق الجامعات بالعالم، والتى ساهمت بتكوين وصهر شخصيتي التي تعرفونها بإيجابياتها وسلبياتها، وكل عام وأنتم وبلدنا الحبيب بألف خير