كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

عن ذاك الفتى الذي طارد حلماً جميلاً

شعبان عبود

أنا الآن في السادسة يمسكني أبي من يدي ويمضي بي نحو مدرسة بنش الريفية ليسجلني فيها. في المدرسة رأيت جرسا كبيرا قرب غرفة المدير والعشرات من أشجار السرو وباحات فسيحة وواسعة من العشب الأخضر..
أنا الآن في الثانية عشر من عمري، وقعت يدي على كتاب لتعليم كتابة الرسائل، صعدتُ الدرج الحجري إلى " العليّة"، أغلقت الباب ورائي، كتبت بسرية شديدة أول رسالة لفتاة، في اليوم الثاني عرف أبي ، انفرد معي في غرفة كبيرة، بيده خرطوم مياه، أغلق الباب وراءه وبدأت حفلة التربية الصالحة.
أنا الآن في الخامسة عشرة، توقظني أمي باكرا جدا، أغسل وجهي واخرج نحو الكروم والحقول الشمالية باتجاه اراضي "الفوعة"، لا أحد غيري في الطرقات، أحمل بين يدي كتاب المدرسة، الشمس تبدأ بالشروق، العصافير استيقظت للتو، أمشي وأقرأ، أمشي الكثير من الكيلو مترات على الطرقات الترابية، بين أشجار الزيتون والتين، أقلب الصفحات، أثبت عند صفحة معينة لساعات، تأخذني أفكاري بعيدا جدا وأنسى الكتاب وأنسى كل ما قرأت، أشعر بالجوع، أقرر العودة للبيت، في طريق العودة أرى الفلاحين منتشرين هنا وهناك، هناك من يبذر وهناك من يقلّم شجرة، وهناك من يفلح ارضه ويغني المواويل، أرى أولاداً مثلي يلاحقون ويصطادون العصافير، أرى "أبو نعمان" متصببا عرقاً، يجرّ بغلين، يحرث أرضه، ويصرخ دائما على بغليهِ..
أنا الآن في الثامنة عشرة من عمري، نجحت من "البكالوريا" بتفوق، أركب الباص المتجه من ادلب الى دمشق لأسجل في كلية الصحافة، في الباص كان هناك من يحمل حماماً في كيس من الخيش ليبيعهم في العاصمة، وربما ليشتري طيورا أخرى، كان هناك في الباص نساء يشبهن أمي، يتكلمن ويفصفصن دون توقف بذور دوار الشمس وبذور البطيخ، كنت بينهم مع زملاء لي أحمل ظرفا وفي داخله صورة عن شهادتي وصورا شخصية بالأسود والابيض وأوراق أخرى..
أنا الآن في العشرين من عمري، اكتشفت أني مهتم جدا بزميلة تدرس معي، واكتشفت أني انظر اليها كثيرا، واكتشفت أني أفكر بها كثيرا، واكتشفت أني أشعر بالفرح عندما تكون جانبي في المحاضرة وعندما نمشي في الطرقات أو نذهب لحضور مسرحية أو لمشاهدة فيلم سينمائي، هي أيضا اكتشفتني، لكن عندما تخرجنا من الجامعة اكتشفت هي أني سنّي واكتشفتْ هي أنها علوية.
أنا الآن في الثالثة والعشرين من عمري، أقرع باب صديق لي في بنش، فتحت لي فتاة بعمر الثامنة عشر الباب، كانت عيونها مكحلة وفيها لمعة غريبة، سألت عن صديقي وتحدثنا بضع كلمات، بعدها قررت مباشرة أن أكمل حياتي برفقة هذه الفتاة التي فتحت لي الباب..
أنا الآن في منتصف الثلاثينيات، أعمل صحافيا في دمشق، بعد سنوات من العمل والخوف أقرر الخروج من سوريا الى الولايات المتحدة مع أسرتي..
أنا الآن في منتصف الخمسينيات من عمري، أشعر أن الولايات المتحدة منحتني وأولادي الآمان والجنسية وجواز السفر، لكني دائما اضبط نفسي متلبسا في ملاحقة طفل درس في مدرسة بنش الريفية رأى جرسا كبيرا وأشجار سرو كثيرة وباحات فسيحة من العشب الأخضر..
أنا وفي مرحلة ما بعد منتصف العمر أو ربما انقضاءه، أضبط نفسي دائما ملاحقا لولدٍ كتب أول رسالة حب ومشى بين حقول التين والزيتون ورأى أولاداً يلاحقون ويصطادون العصافير وسمع مواويل الفلاحين تأتيه من بعيد..

أنا الآن في هذا العمر، بعيد جدا، بعيدٌ عني، عن ذاك الطفل، أطارد حلما جميلاً..