كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

الفقر والثلج قتلا "مرسل"

إحسان عبيد

كنا في ثانوية أرسلان، نجتمع على المودة، ونفترق على الصدق والإخاء.
.
كان يدرسنا اللغة الإنجليزية في الصف الحادي عشر أستاذ فلسطيني أردني اسمه (حسن خليلي) طويل القامة نحيفها، عبوس أدغم، وعر كراديس الوجه، لم نره يضحك البته.
.
"الفضيلة " الوحيدة في درسه أننا كنا نستمتع باستنشاق رائحة سجائره العطرية لأنه يدخن داخل الفصل بشكل دائم، وكان بعثياً مدعوماً ومتنمراً.
كتب الإنجليزي غالية الثمن 4,5 ل. س، وكان الأستاذ حسن دائم التوبيخ لمن يتأخر بشراء الكتب، والحقيقة أنه لم يبق سوى طالب واحد اسمه (مرسل. ج) من إحدى قرى الخط الثاني القريبة من السويداء.. أي يجب أن يتجاوز قرية حتى يصل إلى قريته.
.
هذا الطالب يرتسم عليه الفقر بخطوط طولية وعرضية.. كان عنده فائض من الأدب والخجل والتهذيب، وعنده إمكانات معرفية وأكاديمية مخبأة لا تبرز إلّا حين الطلب منه، ولديه إضافات مفيدة إذا سئل أي سؤال.
.
ذات يوم وقف بجانبه الأستاذ حسن وسأله إذا اشترى الكتب.. وقف مرسل صامتاً طارحاً نظره بالأرض ولم يرد.. صرخ عليه: لماذا لم تشتر؟ صمت مرسل.. بلع ريقه.. وقال بصوت خفيض: لا يوجد معي ثمنها.. فضربه بخلفية باطن كفه على جبينه ضربة قوية أقعدته من وقفته، وقال: في الدرس القادم لا تأت حتى تجلب الكتب.
.
وقتها شردت، ولم أنتبه للدرس كما يجب، وما أن دق الجرس، حتى شكلتُ لجنة من زميلين معي (فوزي الحمد وجميل شهيب) وبدأنا نجمع بالفرنك والفرنكين، وأكثر واحد دفع ربع ليرة وهو أواديس أوغولنيان، وجمعنا ذاك النهار ليرتين و65 قرشا.
.
مساء ذلك اليوم جمعت من أمي وأختي حوالي 6 ليرات، وفي اليوم الثاني أعطاني صهري المحامي توفيق عبيد عدداً من أكياس الطحين الفارغة (كان وقتها مديراً للمؤسسة) وبعتها، وجمعت وقتها حوالي 5, 22 ليرة وقلت لمرسل دون أن يعلم بشيء: الليلة سنسهر عندك أنا وجميل، فرحب وربما كان محرجاً من الضيافة، وأعطانا عنوان البيت؟
.
جميع بيوت السويداء مضاءة بالكهرباء إلا غرفته التي يسكن فيها مع طالب بالصف السابع من القرية نفسها، وفهمنا من الإيماءات والوشوشات أن الولد قبل أن يشتري بفرنكين شاي، وبثلاثة سكر، وبربع ليرة زيت كاز، على أمل أن يذهبا مشاة نهاية الأسبوع إلى القرية، ويسدد مرسل بعد ذلك دين كلفة الضيوف.. ربما على التقسيط.
.
وبإسلوب لطيف أخبرنا مرسلاً، أنه هناك لجنة في المدرسة جمعت حوالي 120 ليرة وجرى توزيعهم على الطلاب الذين بحاجة إلى كتب وبدلات فتوة، وطلع نصيبك هذا المبلغ.
.
بصعوبة قبل المبلغ، لكن علائم الإنفراج على مرسل وشريكه في السكن كانت واضحة، وصار بإمكانه دفع ثمن بدلة الفتوة أيضاً.
.
في فصل الشتاء غاب مرسل اسبوعاً، وقالوا أن الثلج قطع الطريق.. ولكننا فهمنا فيما بعد، أنه كان عائداً ماشياً إلى قريته وهو بدون أكل.. بدأت السماء تندف ثلجاً، ثم أصبح الندف مغزلياً غزيراً، فقرر – على تعب وجوع – أن يحتمي تحت شجرة بلوط.
.
هناك استولى عليه نعاس البرد فنام.. وبقي نائماً.
.
لاتتصوروا مقدار الحزن والنقمة اللتين فتكتا فينا.. وقتها قال المرحوم عادل عبيد قصيدة نارية في رثائه، أخذته المخابرت على إثرها فاستضافوه ليلتين مقدمين له ما يليق بهم، ثم فكوا أسره.
.رحمك لله يا مرسل.
الفقر والثلج تعاونا على مرسل فقتلاه.