كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

نص نعل

إحسان عبيد

بعد نجاحي بالبكالوريا، كان عليّ أن أرمي نفسي على أي مكان يعطيني راتبا سريعا لأساعد أهلي، وأمدُّ إخوتي في دراستهم الجامعية المقبلة.. وكان المكان الأقرب هو؛ الكلية الحربية – الكلية الجوية – الصف الخاص... فتقدمت إليها ولم يمشِ الحال بأي منها والسبب معروف.
قال الوالد معي 150 ليرة.. إنهم لك.. إذهب وتعرف على الجامعة، وعندما تنتهي الفلوس إرجع لتساعدني بالشغل.
أحد أقارب الوالدة حارس عمارة في دمشق وفيها مستودع، وإحدى زواياه تصلح سكنا لي بدون أجرة.. فأمضيت 3 أشهر بـ 150 ليرة، ثم وصلني 100 ليرة من صهري من الجزائر فمشيت شهرين.. ثم استلم والدي شغلا وأعطوه عربونا "عنزة" فباعها وتقاسمنا ثمنها.. المهم دفشت السنة، ونجحت بجميع المواد.
لكنني مازلت أذكر بعض التفاصيل المضحكة.. كان عندي بدل ثياب واحد غير الذي ألبسه، وحذاء واحد ووحيد، صيفي "فرعته حصيرة".. ولكثرة المشي انبقرت أرضه، وبقرت زوجي الجرابات اللذين كانا بحوزتي.. ولئن باطن قدمي أصبح يلامس الإسفلت فأصبحت قدماي تؤلمانني ولونهما أحمر كأنه ملتهب.
إن كلفة تركيب نص نعل للحذاء تقدر بـ 3,5 ثلاث ليرات ونصف، والحذاء الجديد هو بين 9 – 12 ليرة، وميزانيتي لاتتحمل هذا ولا ذاك، فجاءتني فكرة أن أضع كرتونا واقيا تحت باطن القدم وقد طبقت الفكرة فورا.. لكن ما أن أمشي 200 متر حتى يهترىء الكرتون، ويعاودني الألم.
ذات مرة مررت بجانب كولبة يقبع فيها سمكري، وإلى اليمين خارج الكولبة، توجد كومة من قصاصات التنك، معظمها تناوشه الصدأ.. وقفتُ.. تأملتُها.. قلتُ: هذا هو المقصود.. إنها معدن لا يهترىء بسهولة وهي خفيفة أيضا سأضعها داخل الحذاء، وسأضع فوقها كرتونا وأكيد سيمشي الحال.
انتقيت حوالي 10 قطع ملائمة طولا وعرضا، وفي البيت طرّقتُ اثنين منها وجرّبتها فكانت النتيجة عال العال.. بعد يومين جاءتني فكرة مباغتة عندما نزلت من الباص موقف المتحف القريب من الجامعة القديمة، والطريق هناك فيه طلوع خفيف.. نظرت إلى باطن أحذية الطلاب الذين يمشون أمامي، فإذا بها واضحة.. نظرت إلى باطن حذائي، فإذا به يلمع مثل حذوة الخيل على طرحة البيدر.. فالإسفلت قد جلا الصدأ، وتساءلت: ماذا يقول عني الذين يمشون ورائي ويشاهدون هذه الرقعة المعدنية؟ وكنت وقتها قد تعرفت إلى كم بنت من وادي النصارى (واحدة عرّفتني على الأخريات)، ماذا سيقلن عني؟ وهل اكتشفن وسكتن أم لا؟
منذ ذاك الوقت أصبحت أمشي بخطوات قصيرة مثل الرجل الآلي كي لاتبدو رقع التنك في نعل الحذاء، حتى أنه أكثر من واحد سألني: (ليش بتمشي هيك.. شو رجليك بيوجعوك؟).
ذات مرة عاقبت نفسي عقابا مريرا.. قلت أنا لم أفعل ذلك إلا لأنني ضعيف الشخصية.. الفقر ليس عيبا. العيب هو عمل العيب.. وبعد يومين كانت هناك ساعة فراغ بين محاضرتين.. عزمتنا ابتسام على المقصف لشرب القهوة والشاي وتناول السندويش.. اعتذرتُ.. وتحت إصرار الصبايا قلت لهن إن ظرفي المادي لا يسمح لي بالكرم عليكن، وظرفي المعنوي لايقبل التفريط بكرامتي، فأنا كشرقي ووفق قناعتي الحالية لن أكون عبئا على زميل أو زميلة، الموضوع لن ينتهي اليوم، وكرم الطفرة أنا لا أؤمن به، وعندنا مثل يقول فت الرجال على الرجال دين وعلى الأنذال صدقة، وأنا لست نذلا، ولكنني سأذهب إذا دفع كل واحد عن نفسه، وعندما تتحسن ظروفي أكيد سأدعوكن.. قالت إحداهن: بس نحنا مو رجال.. وضحكن.. ولكنهن وافقن على رأيي.. وعلى طاولة المقصف شرحت لهن ظروفي بصدق وبدون خجل ، أين أنام وكيف أصرف؟ حتى أن أكثرهن غنى وجمالا قالت: كنت كبيرا بنظرنا، والآن أنت أكبر.
عندما استلمت المئة ليرة التي أرسلها صهري خبصتها.. رحت إلى سوق الخلعة واشتريت حذاء رائعا بـ 4 ليرات وقميص خملة الدراق بليرة، والإثنان لاقيا استحسان الصبايا وقلن لي: إرم حذاءك الصيفي أبو نجوم فضية، لكنني عزمتهن بقوة وقبلن عزيمتي.
عندما كنت أدرّس في المدرسة الأمريكية، رويت قصة النص نعل لطلابي وطالباتي.. وفي لقاء الأهل بعد أسبوع جاءتني ولية أمر وقالت: جئت لأتعرف إليك فقط.. لقد أخبرني ابني عن قصة حذائك فبكيت، وشكرت الله لأنك تدرس إبني.. وقالت كلاما آخر لا داعي لذكره.