كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

12 آب - 1976 مجزرة تل الزعتر

مروان درّاج:

 في مثل هذا الشهر من صيف عام 2018 كنت في بيروت للقاء الأهل والاصدقاء، في حينه، أخذتني رغبة جامحة لاستعادة ذاكرة المكان لمخيم تل الزعتر، مكان عبارة عن حارات صغيرة وأسقف بيوت معظمها من الصفيح.
وكنت أقصده في يفاعتي مطلع سبعينات القرن الماضي لزيارة عمي وأولاده وأقارب من العائلة...
كنت أدرك بعد انقضاء نحو 45 عاما على صعود المخيم على أيدي القوى الانعزالية، أنه يصعب التعرف على المكان، فهو حتما أصبح أثرا بعد عين، ومع ذلك كنت أتوق للوقوف على المكان وتحولاته.
ركبت سيارة أجرة عادية من الكولا، طلبت من السائق التوجه الى منطقة - الدكوانة - وهو المكان المحاذي للمخيم في ذلك الوقت، وصلت المنطقة، سألني السائق أين تريد النزول؟.. هنا الدكوانة.
ناولته الأجرة ومشيت في المنطقة أجول فيها دون معرفة في أي اتجاه أشق طريقي.. لم أجرؤ سؤال أحد عن المكان الذي كان يقع فيه المخيم تحسبا من حساسية محددة تعيد نبش الماضي وما تركه من ضغائن أو كراهية، ثم قلت، ربما الجيل الجديد لم يسمع بهذا الاسم بعد انقضاء كل هذه العقود.
بينما كنت أفكر وأسبح في وساوسي شاهدت بناء جميلا ومميزا، مساحته شاسعة، يغص بالمحال التجارية والأسواق الصغيرة ومقاه ومطاعم على الرصيف، دخلت المقهى المطل على الشارع مباشرة، طلبت قهوتي وبدأت أتامل الناس والمكان كما أي غريب أو مسافر طال أمد سفره وعاد الى لمكان.
أخيراً. قررت سؤال أي شخص كان، فالحرب انتهت منذ عقود ولن أنكأ الجراح، استجمعت شجاعتي وتوجهت الى زبون مثلي، تبدو ملامحه أنه في أواسط عقده السابع، أي فيما لو كان من أبناء الحي فهو حتما سوف يتذكر موقع ومكان المخيم، سألته بلهجة تحبب: هل أنت من أبناء المنطقة؟.. هز رأسه بالايجاب، وتابعت بشيء من التلكؤ المشوب بالتردد: في أي مكان كان يقع مخيم تل الزعتر من هذه المساحة الجغرافية؟!... ظهرت على وجهه ملامح لا تخلو من الدهشة والحيادية وشيء الأسى، وأجاب بلكنته اللبنانية الصرفة: الله يرحم يا خيي.. هنا في هذا المكان الذي نجلس فيه أنا وأنت كان مخيم تل الزعتر.
فجأة، شعرت بدوار وكأن الدنيا تلف من حولي، تمسكت بالطاولة خشية الوقوع أرضا ولم أتحرك من مكاني.
بعد دقيقية او اثنتين تنفست الصعداء، أخذتني الذاكرة الى عمي وزوجته اللذين رحلا قهرا على ولدهما -مرعي -، ابن عمي من أبناء جيلي تماما.. قتلوه على بوابة المخيم بعد دقائق من سحبه عنوة من يد والدته التي حاولت حمايته ولم تفلح.. وجاء صوت عمتي التي قالت لي كلاما أقرب الى الهذيان في المرة الأخيرة التي التقيت بها في منطقة "ساقية الجنزير" في بيروت الغربية: يا عمتي لا تخافوا عندنا شباب في المخيم أقوى من السباع وابني بعدو عايش..
تخيلت 3 آلاف شهيد يرقدون في أسفل هذا البناء العملاق، بينهم الشباب والأطفال والنساء والصبابا والشيوخ.. وبينهم عشق لوطن، عشق يسكن السماء والغيوم وينام بين الحق والفضيلة.
يومها، تركت المكان وليس في رأسي سوى عبارة وحيدة، لا بد من العدالة يوما، ولا بد من محاسبة القتلة.. وعلى كل فلسطيني أن لا ينسى ولا يسامح مهما طال الزمن.