كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

على هامش مهمة في باريز

صفوان زين:

(بمناسبة ما يجري اليوم في فرنسا):
زرت باريز مطلع خريف عام ١٩٩٣ في مهمة لصالح الشركة التي كنت أعمل لديها. أمضيت فيها حوالي الأسبوعين في فندق صغير متواضع في منطقة شعبية شمال شرق العاصمة تعج بالمهاجرين الأجانب. تعرفت في الفندق على هامش مهمتي الى عائلة فرنسية اختارت كما بدا لي الإقامة الدائمة في الفندق، هي مؤلفة من زوج مقعد وزوجة عاملة وابنة مراهقة تلميذة في المرحلة الإعدادية.
أتيح لي ان أتعرف الى هذه العائلة عن كثب في البهو الصغير للفندق حيث كان أفرادها يمضون معظم أوقات فراغهم هرباً من ضيق الغرفة الصغيرة الوحيدة التي حُشر ثلاثتهم فيها. لاحظتُ منذ بداية تعرفي اليهم بأنني أمام وضع بائس لعائلة فرنسية محبطة. أب مقعد حولته إعاقته الى إنسان معقد عصبي المزاج الى حد الشراسة. أمّ تعمل بكَدّ لإعالة عائلتها، ما زالت صغيرة السن نسبيا، تشعر بأن الحياة ظلمتها، تتبادل الصراخ الدائم اما مع زوجها او مع ابنتها او مع كليهما معا. أما الابنة فكان يبدو عليها الضيق الشديد من وضعها والرغبة الدائمة بأن تهرب من هذا الوضع.
بمساعدة من فرنسيتي "الركيكة" ومن انكليزيتهم "الركيكة" أتيح لي ان أحتك بهذه العائلة في أوقات فراغي وان أتبادل مع الأب بوجه خاص الحديث في مواضيع متنوعة، اذ كان شيوعي الهوى وعلى درجة لا بأس بها من الثقافة العامة. استفسروا منذ اللقاء الأول عن البلد الذي قدمت منه.
مضت لقاءات متعددة قبل ان تسألني الزوجة عن الدين الذي أنتمي اليه. ارتسم على وجهها شيء من الاستغراب عندما أخبرتها بأنني مسلم، انما لم تعلق، تولى الزوج التعليق بجملة معبرة بدت وكأنها رد على استغراب زوجته "البشر متساوون في إنسانيتهم".
بالرغم من إقامتي القصيرة في باريس فقد ربطتني بهذه العائلة صداقة منزهة عن أي غرض. كنت أنضم اليهم في جلستهم المسائية في بهو الفندق كلما سنحت لي الفرصة كي أستمع باستمتاع الى الأب في محاضرات مطولة نصفها الاول عن الوضع العام لبلده، اذ كان على دراية جيدة به، ونصفها الثاني عن الوضع الخاص لأسرته إذ كان على جهل تام به، وكانت المحاضرات تنتهي دوماً بمشاحنة بين الزوج والزوجة أقوم فيها بدور الوسيط النزيه بعد ان يكون النبيذ قد فعل فعله بكليهما.
سألته في احدى جلساتنا وكنا على انفراد عن مشاعر الفرنسيين تجاه مواطنيهم المسلمين وخاصة ذوي الأصول المغاربية، أجابني بصوت خفيض وكأنه يراعي ان لا يسمعه سواي: الثقة مفقودة بين الطرفين، اليمين واليسار يُجمعان على كراهيتهم، وهم في أعماقهم يكرهون الجميع ويشعرون بالغربة في وطنهم الجديد او ما يُفترَض انه وطنهم الجديد. سألته وانت ما رأيك؟ أجابني بالحرف الواحد: استعمرنا بلادَهم، فرضنا عليهم لغتَنا وثقافتَنا وأتينا بهم الى بلادنا وعهدنا اليهم بما كنا نأنف ان نقوم به من اعمال ثم طلبنا منهم ان يصبحوا فرنسيين قلباً وقالباً، مَن تجاوب اتهمناه بالرياء ومن لم يتجاوب اتهمناه برفض الاندماج. سألته ان كانت كثرة من الفرنسيين تشاركه هذا الرأي، أجابني للأسف لا.
بعد مضي ما ينوف على الثلاثين عاماً على هذا الحديث، وبعد أن حدث ما حدث في فرنسا خلال تلك الأعوام المديدة وخاصةً ما يحدث اليوم، أتساءل ان كان صديقي الفرنسي لم يزل عند رأيه. أستبعد، اذ ان الفجوة ما برحت منذ ذلك اليوم تزداد اتساعًا وما برحت القلّة النزيهة تزداد ضموراً، اين الحقيقة؟ أرجّح انها لم تعد لدى صديقي الفرنسي الذي أخشى ان يكون قد عثر عليها مؤخراً لدى انصار اليمين المتطرف من أبناء جلدته؟