كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

د. عبد الله حنا: الإقتصاد الريعي أصل البلاء

في الربع الأخير من القرن العشرين أخذت كفّة الدولة الريعية تبسط سلطانها على الدولة ما قبل الاقتصاد الريعي في كل من بلاد الشام والعراق ومصر وتحل مكانها.
{ الريع في الأصل هو الدخل الذي يحصل عليه المالك, الذي اجّر أرضه الزراعية. ثمّ تطور ليشمل كل دخل لا يأتي نتيجة عمل وإنما نتيجة توظيف أو تأجير أو إقراض الرأسمال. والاقتصاد الريعي يعني ريع النفط وهو الذي يقوم على إنفاق العائدات المالية من تصدير النفط في ميادين شتى رافعا راية البترو دولار سبب عددكبير من مشكلاتنا. }

ومع ازدياد قوة شكيمة الدولة بفضل الريع النفطي المتركّز في يد الدولة, أخذت مؤسسات المجتمع المدني بالتراجع مع الهجوم الكاسح لقوى الدولة ذات السمات الريعية المحجِّمة لمؤسسات المجتمع المدني بقصد وضعها تحت مظلة "الدولة الأمنية", التي أخذت سماتها تنتصر على سمات الدولة ذات الطبيعة الحداثية للبورجوازية الوطنية المنتجة. وبكلمة أوضح أدى ازدهار الدولة الريعية النفطية إلى ترسّخ أقدام الدولة الشمولية، الدولة الاستبدادية.

وفي الضفة المقابلة لم يؤدّ الريع النفطي إلى ازدياد شكيمة الدولة التسلطية فحسب, بل قاد أيضا إلى ترسيخ دعائم التيارات الدينية المتزمتة والمتحجرة والمنغلقة على نفسها بفضل ما وصل إلى صناديقها من "أموال نفطية" "بترودولارية" َبَنتْ بفضلها مؤسسات متنوعة الأشكال والألوان, مما جعلها "دولة داخل الدولة". وجاء التقدم التقاني وظهور المحطات الفضائية واستخدام تلك التيارات لها, ِليُحجّم من دور التفكير العقلاني ويضعف التيارات الدينية المستنيرة, التي لا تملك "البترودولار" المستحوذ على أفئدة ضعاف النفوس وما اكثرهم.
كما أن بعض "الدول الريعية" العربية ومعها إيران رسّخت استبدادها, بفضل ما يصب في خزائنها من عائدات النفط, وقد ساعد المال النفطي كلا من الاسلام السياسي السني والشيعي في الانتشار وما يتبعه من اتجاهات متزمتة ومتحجرة حصرت تيارات التنوير الاسلامي في دوائر ضيّقة.
ولا يخفى اليوم ان هذه التيارات السلفية المتزمتة والمتصلبة أخذت تسدد سهام نشاطها إلى بعض قادة الدول الريعية التي ساعدتها وأغدقت عليها الأموال ودخلت في اشتباك مع حكام هذه الدول
استفادت تيارات الإسلام السياسي استفادة مذهلة من الاقتصاد الريعي القائم على انفاق جزء من العائدات النفطية الخليجية أو الإيرانية على هذه التيارات ودُعاتها ومؤسساتها. ويمكن القول: إن الريع النفطي, بل قل "البترو دولار" أسهم اسهاما قويا في تمكُّن هذه التيارات من كسب جزء كبير من قلوب الجماهير المؤمنة بفضل ما توفره أموال النفط من إمكانات مادية وبشرية لنشر أفكار هذه التيارات وفتاواها.
ومن جهة أخرى فإن غلبة الاقتصاد الريعي في معظم المجتمعات العربية (مضافا إليها المجتمع الإيراني) رسّخ دعائم الدول التسلطية في العالم العربي وإيران, وفقدت هذه الدول ما كانت تكتنزه من سمات الدولة الليبرالية الحداثية..
فالبورجوزية المحلية المنتجة والفئات الوسطى المتنورة كانت الحامل الاجتماعي للدولة الليبرالية, التي ترعرعت بين ظهرانيها مؤسسات المجتمع المدني وما رافقها من قوانين وضعية ومنهج عقلاني واجواء علمانية منفتحة. ومع سيادة "البورجوازيات" البيروقراطية والطفيلية وتقلّصْ دور الفئات الوسطى تلاشت طبيعة الدولة الليبرالية بفضل هذه الظاهرة من جهة، وتحت وطاة الأحداث الداخلية والخارجية والموروث التاريخي من جهة أخرى. وهذا الأمر يفسر ايضا تسارع قوة التيارات السلفية المعادية لما بَنَتْهُ النهضة العربية (وكذلك النهضة الإيرانية) من مواقع وطنية وتنويرية.
وللاقتصاد الريعي دور هام في تراجع تكوّن الطبقة العاملة وانمحاء حدودها. ويملك كاتب هذه الاسطر في ارشيفه بدمشق دراسات ميدانية تدلّ بوضوح على التأثير السلبي للريع النفطي على المسار الثوري للحركة العمالية.

الحلقة القادمة: قطاع الدولة يرسّخ دعائم الدولة الأمنية

أعناب سوريا بين الحرب والتغيُّر المناخي!
لماذا حيفا؟.. معادلات الصراع بين الأمن والإقتصاد
مصير غامض لعمال الضفة الغربية وسط أزمة اقتصادية طاحنة
القطاع الزراعي.. ضحية أخرى للحرب في سوريا
تونس.. الموارد المائية بين الأمس واليوم
التغيير ضرورة للتقدم والتطور
ما الأسباب الحقيقية للأزمة الاقتصادية والمعيشية الخانقة في سورية.. والحلول الممكنة؟
الحرب الاقتصادية في الضفة.. خسائر مدمرة وكارثية
الحياة الريفية.. ميزاتها وسلبياتها
ألمانيا نادمة لاتباعها السياسة الأمريكية وتطرد لاجئين أوكران وتتبعهم بعرب
إسرائيل.. والحرب الاقتصادية على الضفة الغربية
الليبرالية الجديدة: أساطير وأوهام وتداعيات كارثية على الدول التي تبنتها
قضايا اقتصادية راهنة
قريتي النائية وبيتي الترابي.. طفولتي الهنيئة وذكرياتي الجميلة
المتة.. ماهيتها وأماكن انتشارها.. فوائدها وأضرارها