كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

الشيخ عبد الحميد الزهراوي و"رسائل الفقه والتصوف"

د. عبد الله حنا- فينكس

أخذ الشيخ عبد الحميد الزهراوي (1871-1916) العلم في حمص على شيوخ زمانه. وبعدها سافر إلى مصر وتأثر بنقيب الأشراف فيها السيد توفيق البكري. ولما عاد إلى حمص أصدر جريدة "المنير" التي كان يطبعها في حمص على الجلاتين، ويوزعها سراً في البلاد السورية. كانت جريدة المنير آنذاك متوافقة مع سياسة جمعية الاتحاد والترقي، التي اعتقد أحرار العرب أنها ستنقذهم من استبداد السلطان عبد الحميد وإدارته الطاغية. ولهذا ضيّقت السلطات، أيام عبد الحميد الخناق على السيد عبد الحميد الزهراوي، مما أجبره على التوقف عن إصدار المنير.
كان الزهراوي، منذ نشأته، ميالاً إلى الاشتغال بالإصلاح الديني والاجتماعي المرتبط ارتباطا وثيقاً بالسياسة. ولهذا دخل الزهراوي ميدان السياسة، في وقت كان الاستبداد الحميدي يخيم على البلاد. ولكن الزهراوي لم يتراجع عن آرائه الإصلاحية، وانتقل إلى عاصمة الخلافة استنبول لتحقيق أغراضه. وهناك عمل محرراً في إدارة جريدة "معلومات" العربية في الأستانة. وكان ما يكتبه فيها موافقاً لمشرب جريدة المنار الاسلامية الإصلاحية الدينية في القاهرة لصاحبها الشيخ رشيد رضا. وكان الزهراوي يكتب في الحب والبغض والاجتماع والسياسة.
سعت سلطات استنبول كسب الزهراوي إلى جانبها عن طريق تعيينه قاضياً لإحدى الألوية. وكان القصد من هذا التعيين الخوف من "أن تسري كهربائية أفكاره المتنورة إلى الغير"، حسب تعبير صديقه الشيخ أحمد نبهان الحمصي. ولكن الزهراوي رفض المنصب. فما كان من السلطات إلا أن أوقفته ووضعته تحت المراقبة في استنبول لمدة أربعة أشهر. ثم أُرسل مخفوراً إلى دمشق للإقامة الجبرية فيها باسم "مأمور إقامة" وبراتب شهري قدره خمسمائة غرش.
أثناء إقامة الزهراوي الإجبارية في دمشق كتب رسالة في الإمامة مبيّناً شروطها، وأرسلها إلى مصر حيث نشرتها جريدة المقطم بإمضاء (ع. ز) وهو الإمضاء الرمزي للزهراوي. ثم كتب ثلاث رسائل (مقالات) في "الفقه والتصوف" بحث فيها في أمر الاجتهاد ونقد بعض المسائل، مما أثار عليه نقمة الجمهور. ولنترك صديقه الشيخ أحمد نبهان الحمصي يصف لنا ردود الفعل على مقالات الزهراوي، كتب نبهان:
"فلما اطلع على هذه الرسالة بعض المعاصرين الجامدين أغروا العامة زاعمين أنه مخالف للدين، فضجّ الناس وقتئذ عن غير روية لأنهم اتباع كل ناعق. وكان الوقت عصر جمعة من أيام رمضان. وحُشِدَت العامة من كل فج، فكادوا أن يوقعوا بالزهراوي شراً لولا أن تداركته العناية الإلهية، وذلك مما يدل على شجاعته وإخلاص ويقينه بربه.. وقد أثار بعض المتصفين بصفة العلم هذه الفتنة باسم الانتصار للدين والله يعلم المصلح من المفسد".
اعتقل والي الشام ناظم باشا الزهراوي، إرضاء للعامة وخشية عليه من فتكها.. وأخيراً أُرسل الزهراوي مخفوراً، عن طريق بيروت، إلى الأستانة. فوُضِع هناك في الإقامة الجبرية مدة ستة أشهر، ثم أُرسل محفوظاً إلى حمص عن طريق الاسكندرونة وحلب. لم يكن الزهراوي حُراً في حمص، بل كان "مأمور إقامة"، بالراتب نفسه الذي تقاضاه في دمشق. وبعد مدة وجيزة هرب في عام 1320 إلى مصر عن طريق طرابلس الشام. وهناك اشتغل في التحرير في جريدة المؤيد ثم في الجريدة إلى أن خُلع السلطان عبد الحميد 1909 وأُعلِنَ الدستور سنة 1327هجرية، فعاد إلى سورية وانتُخب عضواً في مجلس المبعوثان (البرلمان العثماني). وبعدها تزعم عبد الحميد الزهراوي "المؤتمر العربي الأول" المنعقد في باريس عام 1913. ثم عُيّن عضواً في مجلس الأعيان. وكان في عداد قافلة الشهداء، الذين أعدمهم جمال باشا عام 1916.
أصدر الزهراوي في استنبول بالإشتراك مع شاكر الحنبلي أوائل عام 1910 جريدة "الحضارة" وهي "جريدة عربية يومية سياسية فنية أدبية" جاء في افتتاحية العدد الأول بقلم الزهراوي: "إننا ندعو إلى إقامة ميزان العدل في هذه الحكومة ونقاوم ما نراه حيفاً أو نصراً للحيف بقدر ما تساعدنا عليه القوانين".
ذكرنا أن الزهراوي كتب في عام 1319هـ وهو في دمشق تحت المراقبة السياسية رسائله الإصلاحية الثلاث (الفقه والتصوف)، التي نَشَرت أولها مجلة "المنار" وقرّظت "المجموع" لما طُبع على حدة في مصر. وكانت رسائل الزهراوي الإصلاحية أشد نقداً مما كان يكتبه المصلح الديني الشيح محمد رشيد رضا في مجلة "المنار". وقد كانت ردود فعل قوى الاستبداد التقليدي عنيفة إزاء رسائل الزهراوي في (الفقه والتصوف).
ولنقرأ ما كتبه الشيخ رشيد رضا في المنار الاسلامية الصادرة في القاهرة:
"وقد كانت هذه الرسائل أشدّ مما كنا نكتبه في موضوعها نقدا على سعة حرية الرأي هنا (يقصد مصر – المؤلف) وشدة الضغط هنالك (يقصد الدولة العثمانية)، فهاجت عليه حملة العمائم في دمشق، واشد ما أنكروه عليه فيها القول بالاجتهاد وبطلان التقليد، فهيّجوا عليه الحكومة فاعتقلته في الشام ثمّ أُرسل إلى الاستانة ولم يكن سبب ذلك التشديد عليه، والاغضاء عمّن اتهموا بالقول بالاجتهاد وإبطال التقليد معه، غيرة من الحكومة على الفقهاء والصوفية أن يوجه إليه انتقاد، ولا مجرد الإرضاء لعصبية الحشوية الجامدين في الشام، وإنما سببه الباطن إنه كان نشر في المقطم مقالة في الخلافة بإمضاء (ع. ز) وهو إمضاؤه الرمزي لكل ما كان ينشره في مصر، وقد وجدت تلك المقالة معه عند القبض عليه وحاول تمزيقها...".
وقد قرّظت المنار في كانون الثاني 1902 رسائل الزهراوي وأبدت رأيها فيها. وننشر هذا الرأي حتى يطلع القارئ على الروح السمحاء السائدة لدى سلفية عصر النهضة، ممثلة بأحد رموزها الشيخ رشيد رضا. فحول "الفقه والتصوف" للزهراوي، كتبت المنار:
"مجموعة مؤلفة من ثلاث رسائل في انتقاد كتب الفقه والأصول والتصوف لكاتبها العالم الفاضل عبد الحميد أفندي الزهراوي، وقد نشرنا الرسالة الأولى في المنار... ثمّ وردت علينا الرسالة الثانية مع رسالة التصوف فلم نشأ نشرهما - على احترامنا حرية البحث والنقد واعتقادنا أن العلم لا يرتقى إلا بهما – لأن مثل هذا النقد لا يكون مفيدا إلا إذا تناوله الخواص بالمناظرة المعتدلة. وإننا نرى أهل العلم الديني يلجؤون في بلاد الاستبداد إلى مقاومة من يخالفهم بالقوة ونراهم في بلاد الحرية لا يجفلون بما يدور بين حملة الأقلام وغيرهم من أمثال هذه المباحث... ولكن رسالة الفاضل الزهراوي مخصوصة بالمساوئ، ولذلك كان يجب أن لا يطلع عليها إلا الخواص فطبْعُها خطأ وإن كان قصد مؤلفها حسنا. فنحن نجلّ غيرته ونحترم حريته ونمدح شجاعته، على أنه أفرط فيها. ونتمنى أن يطلع العلماء على رسالته وينتقدوها".
ولنقرأما كتبه الزهراوي ونشرته المنار 1910 تحت عنوان "الفقه الاسلامي":
" كلامي في الفقه الاسلامي حملني عليه سبب شريف ذلك أنني كتبت إلى صديق لي فاضل (هو رشيد رضا – المؤلف) مكتوبا مطولا عرضت له فيه نبذة من أفكاري بأننا إخوان سعي في سبيل إصلاح يهتم له الشاعرون بالأحوال وينكره الواقفون الذين تتجاذبهم الأهواء ويتجاذبون الأدواء. والمكتوب جاء فيه إنكار لكثير من العلوم التي يعتبرها المسلمون من العلوم النافعة لهم في دينهم ودنياهم . واعتبرها أنا بالعكس بما قدم عندي من البرهان فأختار أن يحاورني (أي الصديق رشيد – المؤلف) في قسم من أقسام المكتوب".
"وكلام الفقه الاسلامي يشتمل عند الزهراوي على قسمي العبادات والمعاملات. وهو يريد الاختصار والتبسيط والعودة بالدين إلى البساطة والسهولة والاشتغال بعلوم الدنيا التي تعطي أصحابه القوة والعزة".
عام 1963أشار الدكتور سامي الدهان في "مهرجان الفكر والعقيدة" إلى دور الزهراوي الوطني والفكري، ننقل عنه الفقرة التالية:
"... ولقد رأيناه يعود إلى دمشق بعد ذلك ويخص قلمه بالأمور الدينية وإصلاح الحياة الاجتماعية، وفي هذه الحياة طبقة كانت تتزعم وتتصدر وأكثرها من الشيوخ المتعممين، وفي هؤلاء من لا يزينه علم صحيح وفهم عميق، فانخدعوا بالقشور وخدعوا الناس بها. فأنشأ الزهراوي يصحح النظرة ويحارب البدع والضلالات، ويرسم في مقالاته حياة النبي فهو قدوة المؤمنين و وأكمل الكاملين – على حدّ تعبيره – فعلى المسلمين أن يقتدوا به. ولذلك عرض له كثيرا في كتابه "الفقه والتصوف" ونزع إلى القول بالاجتهاد ومحاربة التصوف الزائف، فثارت عليه العامة وهمّت به لقتله...".
وقد انتصر لآراء الزهراوي المجددة عقلاء العرب وعلى رأسهم الشيخ محمد عبده مشيرا إلى ردود الفعل عندما طُبِع مقاله "هاج عليه حملة العمائم، وسكنة الأثواب العباعب، وقالوا انه مرق من الدين، أو جاء بالأفك المبين... مع أنه لم يقل إلا ما يتفق مع اصول الدين و ولا ينكره القارئ والكاتب ولا الآكل والشارب".
والمعروف ان الزهراوي ترأس المؤتمر العربي الأول عام 1913 المنعقد في باريز وكان في عداد شهداء السادس من ايار 1916، الذين علّقهم جمال باشا على أعواد المشانق.