كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

عرس في القرية

محسن سلامة- فينكس

 عام ١٩٥٤م من شهر نيسان بدأ الحديث في كلّ القرى المجاورة عن عرس في قرية "نعنو" ناحية القدموس نهاية موسم الحصاد.
وكان الناس منذ زمن طويل لم يحضروا عرساً، كانت التشعيلة سبعة أيّام قبل العرس.
كنّا نذهب يوميّاّ لنحضر تلك الليالي الملاح، كان القنديل عود القيسيّ المجفّف ندقّ رأسه حتّى يسهل تشعيله، كانت مناظر تلك المشاعل كأنّها الكواكب على الأرض في إثر بعضها عند العودة أنصاف الليالي إلى قريتنا "الدنبيّة" أربع كيلومترات عن "نعنو" غرباً.
وفي اليوم المحدّد للعرس ذهب طلّاب المدرسة جميعهم إلى العرس ظنّاّ منهم أنّها عطلة رسميّة من وزارة التربية.
كان مشهد خروج العروس من بيت أهلها الأجمل، غناء الصبايا وأهازيج الفرح وزغاريد البهجة.
امتطت العروس الفرس بزينته البهيّة، وساعدها والدها على ركوب ذلك الفرس، وظلّ الوالد ماسكاً كلّ الطريق بزمام الفرس، والناس أمام موكبها يرقصون كلّ على طريقته.
وعندما وصلت العروس بيت الزوجيّة في قرية "خربة عامودي" أعطاها والد العريس قطعة من العجين ألصقتها على عتبة المنزل أمام أهازيج النساء،
ثمّ ذهب الجميع إلى البيادر، وعُقِدَت حلقات الدبكة إلى منتصف الليل، يتبارى الشباب والصبايا من يصمد كراعي أوّل في الدبكة لساعات أطول، كان العرق يتصبّب من ظهورهم وأكتافهم كأنّه الينابيع، وصوت الصبايا يمسّ شغاف الروح والقلب لذلك الغناء الشعبيّ الشجيّ.
والمشوبش صوته أعلى من الجميع بنصف فرنك ينادي بحياة العروس وحياة الوجهاء في العرس وحياة راعي الأوّل.
على أطراف البيادر بائعو الحلوى الكعيبات والقضامة والراحة، نمنا ليلة اجتمعت أحلام الطفولة كلّها سعداء بشكل كبير.
وفي اليوم الثاني حضرنا إلى المدرسة بكلّ نشاط وفرح، وكان المعلّم الخالد المعلّم العظيم أنور الجنديّ بانتظارنا مكفهرّ الوجه مُقطّب الجبين يخرج من عينيه الشرر شرر الحزم المعهودة عنه عند الغلط.
كنّا شعبة واحدة من الخامس إلى الأوّل.
بدأ بطلّاب الخامس والرابع والثالث وضرب كلّ واحد منهم كفّين ضربة المعلّم المؤدِّب، وقال لهم: هؤلاء أطفال ذهبوا يفرحون بالعرس وأنتم أصحاب الشوارب أريد أن أعرف إلى أين تذهبون، وطلب منهم الركوع على الأرض.
انتقل ألينا الصفّ الثاني والأوّل وشدّنا بأذننا، وقال: حتّى أنت يا محسن، هؤلاء الكبار في الخامس والرابع ذهبوا ليعشقوا وأنتم ماذا تفعلون؟
وبعد دقائق انتهى كلّ شيء، وبدأ الدرس، وقال: غداً تسميع دروس اليومين الماضيين.
كان رحمه اللّه يأتي يوميّاّ سيراّ على الأقدام من القدموس إلى القرية، واللّه لم يغب يوماً واحداً.
رحم اللّه المعلّمين الآباء الذين ربّونا وعلّمونا وهذّبونا، بفضلهم عرفنا نور الحياة.