كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

ماضينا شرف وفخر لنا.. بيتي الترابي وبقراتي الأليفة وطفولتي السعيدة

د. جوليان بدور- فينكس:

من إحدى الآثار السلبية التى خلّفها المستعمران التركي والفرنسي وراءهم في بلادنا ليس فقط الفقر والعوز المدقع، وإنما أيضاً غياب الخدمات الأساسية والبنى التحتية (مياه، كهرباء، طرق، مدارس، عناية صحية) عن الغالبية الساحقة من القرى السورية. قريتي لم تكن تشكّل حالة استثنائية في هذا الواقع المرير والمُعْدم. لكن بُعدها الكبير عن مدينة اللاذقيه (أكثر من ٤٥ كم) ووعورة الطرق وتعرجاتها وصعوبة الوصول اليها، بسبب الجبال الشاهقة والوديان العميقة المحيطة بها، زاد من حدة عزلتها وإنزوائها وخلوتها. أمام هذا الواقع القاسي والمُبّرح، لم يكن أمام سكان قريتي (والقرى المجاورة) سوى إبداع الحلول وابتكار الطرق التى تعتمد على ما توفر لهم الطبيعة المحلية من خامات وموارد أولية من أجل بناء مساكنهم وايجاد مصدر رزق للعيش في منطقة معزولة كلياً عن العالم "المتحضر"، ولكنها تنعم بطبيعة فائقة الروعة والجمال وبمناخ صاف ونقي وبهدوء منقطع النظير.جوليان بدور
في هذه البقعة النائية والمقطوعة عن العالم المتمدن، كان على أهلنا وأجدادنا إذاً بناء بيوت ومنازل ليس فقط لهم ولعوائلهم ومؤنهم وإنما أيضاً أبنية، لا تقل أهمية عن منازل عائلاتهم، مخصصة لإيواء الماشية وحيواناتهم الأليفة، وإسطبلات لتخزين التبن والحبوب المخصصة لتغذيتهم.
على عكس الوقت الحالي، اقتناء الماشية (بقر، ماعز، غنم) والحيوانات المستأنسة (دواجن، خيول، قطط وكلاب…)، لم يكن بهدف التسلية والتباهي، وإنما كان مصدر رزق ووسيلة حماية وعمل رئيسية وضرورية للحياة في القرية لسببين رئيسيين: الأول حراثة الأرض ونقل المحاصيل ودرسها. الثاني تأمين مصدر غذائي هام وضروري للناس (لحم وخاصة للأعياد، اللبن ومشتقاته، بيض، سماد عضوي، أحياناً مصدر دخل مالي في حال تربية بعض العجول والماعز والخواريف وبيعها في السوق).
كان، عندنا من المواشي، ثوران جميلا المنظر لحراثة الأرض (اسمهما زريق وغندور، وكانا رفاقاً لي ولهما مكانة خاصة عندي نظراً لطول الوقت الذي قضيته معهما في المراعي، حوالي عشر سنوات) وبقرة حلوب اسمها شقيرة (كان لها مكانة خاصة عند العائلة نظراً لأهمية الحليب التى كانت تدره علينا) والعجول والعجلات التى تلدها، ودَابةْ كبيرة الحجم (بعيداً عنكم بالعامية، جحشة أو حمارة) كانت تلعب دوراً كبيراً وهاماً نظراً لتنوع وصعوبة الأعمال التى كانت تقوم بها (حمل وركوب)، ولكوني كنت استقلها لقيادة القطيع الى الحقل.
في بعض السنيين كان والدي يشتري، خاروفين أو جديين أو ثلاثة للأعياد وخاصة القوزلة، أو للبيع في السوق والحصول على دخل مالي. ومن الطيور والحيوانات الأليفة كان عندنا حمام وحوالي عشرين دجاجة وديك أو ديكين. الحمام كان مخصصاً لنأكل لحمه، أما الدجاج فكان لإنتاج البيض والفراريج، على عكس ما يمكن أن يتوقعه الكثيرون، البيض لم يكن مخصصاً في أغلب الأحيان للأكل، إنما كان يمثل وسيلة تبادل تجارية يتقبلها البائعون لشراء بعض الحاجات من دكان القرية (شراء دروبس أو مربى، بسكويت أو بعض الحاجات المنزلية). أما الفراريج، ثلاثة أو أربعة أو اكثر حسب الصدف، كنا نحتفظ بها لاستخدامها عند الحاجة، أي ذبحها وطبخها في حال جاءنا ضيف عزيز علينا. الأولية كانت دائماً وأبداً معطاة للضيوف والقيام بالواجب.
كأغلب القرويين كان عندنا قطط وكلب اسمه بيجو. دور الكلب كان محوري بالنسبة لنا. ليس فقط كان يحمينا من الضبعة والوحوش المفترسة، بل كان ينبهنا من قدوم أي خطر علينا أو على الماشية. علاقتي به كانت قوية وحميمة. في إحدى المرات كان في عراك مع كلب آخر وكان في وضع محرج، إلا أن مساعدتي له مكنته من الفوز وهذا ما لم ينسه قط. إذ كان يرافقني بالنزهات والمشاوير البعيدة وخاصة في الليل.
عند مغادرتي القرية في عام ١٩٨١ للذهاب إلى فرنسا، جاء مع جميع أفراد العائلة، مشياً على الاقدام حتى قرية "وطى عرامو" (التى كانت تبعد، عن قريتي، حوالي ساعة مشي على الأقدام) وصعد الى الميكرو باص ولم يكن يود النزول منه وهو يهز بدنبه وكأنه شعر بأن صديقه وحيد (اسمي الأول بالسوري) سوف يذهب لمكان آخر بعيد جداً عنه.
مَهَامْ وعناء أهلنا وسكان القرى لم تكن تتوقف عند بناء سكن لهم ولحيواناتهم الاليفة. بسبب غياب الفرن الآلي وبعدنا عن المدينة، كان عليهم إشادة بناء مخصص للتنور (التنور مكوّن من ثلاثة جدران مغطاة لتلافي المطر) من أجل طهي الخبز. الخبز مع البرغل كان يشكل الغذاء الأساسي والرئيسي للقرويين ولم يكونا مستوردين، بل كان مصنوعان من الحنطة التى كُنّا نزرعها في القرية. ما بين بيت سكن مخصص للعائلة ومأوى للماشية والحيوانات المستأنسة واسطبلات التخزين ومأوى التنور، يمكنني القول بأن المساحة الكلية لهذه البيوت كانت تتجاوز ٢٥٠ متراً مربعاً.
بناء مجمع سكني بهذه المساحة الضخمة لم يكن بالأمر السهل، إذ بعد بناء جدران البيوت من أحجار القرية (عملية لم تكن على الإطلاق سهلة بسبب غياب الآليات للنقل الأحجار الثقيلة) كان عليهم أيضاً ايجاد المواد اللازمة لسقف هذه البيوت. مهمة تتطلب جهداً وعناء كبيرين لأنها تستوجب إيجاد "سواميك" (ساموك هو وتد خشبي أو عمود ثخين) ضخمة تستطيع تحمل ثقل التراب ومواد أخرى من أغصان الأشجار يحتفظان بالتراب ويمنعان من سقوطه. السواميك تم تأمينها من خلال قطع أشجار الحور العالية والمتوفرة بكثرة بالقرية. أما أغصان الأشجار التى تحتفظ بالتربة وتمنعها من السقوط فكانت مكونة من الشمبوطو والبلان ذي الفروع الكثيفة وهي متوفرة بكثرة بالقرية أيضاً. كان على أهلنا إضافة طبقة من الطين اللزج (جلب التراب المخصص لذالك من أماكن بعيدة وبكميات كبيرة وجَبْله مع التبن والمياه) لإكساء سقف البيت بطبقة من الطين اللزج تمنع تسرب المياه الى داخل البيت. مهمة جبل التراب (بعد خلط التراب مع المياه والتبن كن نقوم برفسه بالأرجل، وهي عميلة ممتعة لنا كأطفال إذ كنا نرمي بعضنا على الطين) كنت أقوم بها مع والدي ومن ثم نقوم برفعه الى سطح البيت لتقوم والدتي الحنونة ببسطه على جميع أسطح المنازل. تطيين البيوت، عمل شاق كانت تقوم به والدتي سنوياً في فصل الصيف قبل قدوم فصل الأمطار. بعد جفاف الطين كان على الأهالي أستخدام المعرجليني (حجر بطول نحو المتر مدور وأملس وثقيل) لدحل التراب والطين ورصهما وزيادة مناعتهما منعاً لتسرب مياه المطر الى داخل البيت. الطريقة كانت ربما فعّالة وتقي البيت من مياه الأمطار. إلا أنها لم تكن كافية لمنع تسرب مياه المطر في حال سقط الثلج. الصَقْيع أو الزمِيتة التى كانت تولدها الثلوج كان تؤدي الى نفش الطين والتربة مما يسمح بحدوث ثقوب صغيرة نسميها (وكفة) أي تسرب مياه المطر وسقوطه في أي مكان من البيت. أي في فصل الشتاء وعز دين البرد، كان من الممكن ان توكف علينا (سقوط قطرات من مياه المطر ونحن نائمون على الوجه أو البطن) أو في أي مكان آخر في البيت.
ما يميز بيتي القروي وبيوت القرية في ذالك الوقت هي أنها كانت مغلقة ومتصلة ببعضها البعض (نوع من الحماية ضد الخطر الخارجي) ومجمعة.
عتبة بيتنا لم تكن بعيدة عن عتبة الدار الذي كان يأوي الماشية.
أيضاً كاغلب بيوت القرية كان في وسط الدار أو بجانبه توتة عليها دالية. توتتنا كانت شجرة معمرة كبيرة. عرض جزعها كان يتجاوز المترين وكانت بجانب البيت، كنت أتسلقها للصعود على سطح البيت. كما كان بجانب البيت زاروباً يوجد فيه جميع أنواع الأشجار المثمرة. كما أنه كان يشكل تواليت طبيعي للبيت. يحكى أنه في إحدى المرات جاءنا ضيف من المدينة. ذهب إلى الزاروب لقضاء حاجته في الليل. في زمن لم يكن هناك كلينكس ولا محارم كنّا نستخدم ما نجده من حصو وأعشاب متوفرة بالطبيعة للنظافة. صديقنا المدني لم يكن يعرف نوعية الأعشاب وخصائصها. اختار عشبة اسمها القريص (أي التى تقرص الجلد وتولد حساسية) للنظافة. رجع على البيت وهو يصرخ . افتكرنا للوهلة الأولى بأن الضبعة قد هاجمته. فقال أعطوني مياهاً ساخنة وصابونة (وهو يحك مؤخرته بقوة) لكي أتوضأ، مما آثار موجة من الضحك عند السهيرة وأفراد العائلة.
نعم هكذا كانت طبيعة الحياة في قرانا السورية. حتى لو كانت تتميز بظروف معيشية صعبة تصل إلى حد المستحيل أحياناً، وخالية من أي نوع من وسائل الترفيه، إلّا أنها كانت حقيقةً حياة سعيدة جميلة وهادئة بكل ما تعنيه الكلمة. الطبيعة جمالها مذهل وفريد من نوعه، المناخ نقي وصافي، العصافير والفراشات تأتي رفوف رفوف لتطربنا بغنائها وتنعشنا بمناظرها. والأهم من كل ذالك الإلفة والتعاون القوي والفريد من نوعه، ليس فقط بين أفراد الأسرة وإنما أيضاً بين أهالي القرية.
يبقي عليّ القول: أنا الذي أسكن في دولة مصنفة من بين الدول الغنية وتتميز بالاستهلاك المفرط، وأملك جميع ما يسمى وسائل الترفيه، أحن كثيراً لذلك الزمن وأفكر غالباً بسيرورة طفولتي وشبابي وحياتي. وحلمي الكبير، وقد يكاد أن يكون الوحيد، هو أن أعود وأعيش قسماً من حياتي بعد التقاعد في قريتي الصغيرة والوديعة والمتألقة الجمال.
هامش1: كُنّا نأكل مما نزرع ونلبس مما نصنع
هامش2: وهاك الحياة الغضة.. بتضلّ حليانة
فيها العمر بيمضى... أحلام وغناني
هامش3: ساتكلم في القادم من الذكريات عن طبيعة عمل القرويين، عن نوعية أكلهم وطعامهم، عن العلاقات الاجتماعية التى كانت تربطهم، عن كيفية التنقل من القرية الى المدينة…