كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

قرية "دير حباش" الأثريّة.. حينَ تتعانقُ المسيحيّة معَ الإسلام على أرضِ السّلام

ريتا علي- فينكس:
هيَ إحدى قرى ريف طرطوس الوادعة، بطبيعتها الخلّابة، وهوائها النقيّ وسكّانها الطيّبين، تقع في الجنوب الشرقيّ لمدينة طرطوس، مطلّةً على البحر والجبل والوادي.

إلى جانبِ اسمها الذي أخذتهُ عن بقايا الدّير الأثريّ الموجود فيها، وموقعهِا الجغرافيّ الذي سكنه فيما بعد أهالي القرية الذين اعتنقوا الإسلام بعد دخولهم المنطقة على يد الشيخ ""موسى الفارس (ق)"، ما يميّزها أيضاً هوَ ما تقومُ عليهِ من آثارَ شاهدة على عراقةِ الشّعبِ الذي سكنها ومرّ عليها ، فهيَ ابنةُ التاريخِ الأصيل، سكنها المسيحيّون منذُ عام /330/ للميلاد، ثمَّ المسلمون فيما بعد، وما يزالونَ يقطنونها حتى الآن.مغارة دير حباش
في هذهِ القرية توجد المغارة المعروفة بمغارة "دير حباش"، وهيَ واقعة في إحدى الوديان التابعة لها، تكتنفها الكثير من القصص والحكايا، ولكنّها لم تحظَ حتى اللحظة باهتمام باحثي الآثار بالاهتمامَ اللازم، لاكتشافِ حقيقةِ ما وُجِدَت من أجله، وما قد تطويهِ في جوفها من حقائقَ تاريخيّة يتداولها أهل القرية عنها، وأهمّها الحديث حولَ مساحة هذهِ المغارة واحتماليّة امتدادها حتى البحر وباتّجاهه.
أمّا المَعلَمُ الأثريّ الأهمّ والأبرز الذي يميّز القرية هوَ وجودُ بقايا دَيرٍ كَنَسيّ بأقواسهِ الحجريّة الثلاث الوحيدة المتبقّية حتى اليوم والدالّة على تاريخهِ الأثريّ. هذا الدّير كانَ قد بناهُ أحدُ رهبان الحَبَشة بعدَ مرورهم في سورية في تلك الفترة قادمينَ منَ "القدس الشريفة"، حيثُ استوطنوا هذهِ القرية من بين الأماكن التي أقاموا عليها، وبنَوا عليها دَيراً سُمّيَ باسمهم فيما بعد "دَير الأحباش"، ليُتداوَلَ فيما بعد باسم "دَير حباش".
البقايا ماتزالُ موجودةً وشامخة في القرية، وهيَ واقعة على بُعد /300/ متراً منذُ دخولكَ القرية من مدخلها الشّمالي الشّرقيّ على طريق عامّ (طرطوس - صافيتا)، مُتعانقةً معَ أحدِ المساجدِ الموجودِة على تلكَ البُقعة نفسها، وهوَ "مقام الشيخ موسى (ق)"، هذا المسجد الذي يُعدُّ من أقدمِ المقاماتِ الدّينيّة الإسلاميّة في المنطقة كما صرّحَ لنا معمّرو القرية تداولاً عنِ الأجداد، وكما أكّدتهُ وكشفتهُ لنا دائرةُ الآثار في محافظة طرطوس.
العمّ "عزيز" أحد المُعمّرينَ في القرية أعادَ لنا سردَ عراقةِ هذهِ القرية، آخِذاً إيّانا بعيداً إلى عمقِ التاريخ، لندركَ جمالَ جغرافيّتها وأهمّيةَ إطلالتها حتى اختارها الرهبانُ مكاناً لبناءِ دَيرهم الخاصّ بالعبادة عليها، إلى جانب بنائهم دَيراً آخر في قريةٍ مُجاورة لقرية "دير حباش"، وهيَ قرية "سمكة" تحوي آثار شاهدة أيضاً على بقايا دير، ما بقي منها أكثر ممّا بقيَ في قرية "دير حباش"، تعود للعهد البيزنطي في القرن الرابع الميلادي.
يقول العمّ "عزيز":
ولدنا في هذهِ القرية وترعرعنا على وجودِ هذهِ القناطر إلى جانب مقام الشيخ "موس الفارس" الذي روى لنا أجدادنا أنّهُ أدخلَ الإسلام إلى المنطقة، فاعتنقَ سكّان المنطقة الإسلام، وبَنوا له مسجداً بجانب الدير، دون المساس به وبما قامَ عليه من مكوّناتٍ ودلائلَ على الديانة المسيحيّة التي سادت المنطقة قبلاً، ما يثبت التعايش الدينيّ التاريخيّ العريق بينَ شعوب المنطقة. وقد دفنَ هذا الشيخ الجليل بجانب الدير بعد وفاته، وتمّت المُحافظة على قدسيّة تلكَ الآثار، لتبقى حتى يومنا هذا متعانقةً مع مئذنةِ المقام، وشاهدةً على ذلكَ التعايش والتآخي الجميل.
"المِعمار الهندسيّ للقناطر الأثريّة"مسجد دير حباش
يقومُ نظامُ عمارةِ آثار "دَير حباش" في بنيتها الموجودة اليوم على أقواسٍ أثريّة ثلاثة ما تزالُ موجودة بجانب المقام الدينيّ، معروفة باسم "قناطر دير حباش"، تُشرف فيما كانَ يشرف كامل بنائها في السّابق على آثارَ أخرى في قرى مجاورة، وهيَ بقايا آثار "برج ميعار شاكر" و"دير سمكة" غرباً ، و "برج صافيتا" شرقاً ، و"قلعة العريمة" جنوباً.
وهيَ بقايا حجارة بازلتيّة سوداء متوضّعة بإتقان فوق سطح الأرض، يظهر منها الجزء العلوي فقط، بسبب تموضع الجزء السفلي في التربة بسبب تقادم الزمن عليها. ولكنّها حجارة من غير حجارة المنطقة، فالمنطقة لا تحوي حِجارة بازلتيّة بهذا التكوين، وكأنّها على الأغلب جُلبت إلى هذا الموضع ليُبنى الدّير بها، ولتبقى أطولَ مدّةٍ ممكنة شاهدة على من بناها وقطنها، بسببِ صلابتها ومتانة تكوينها وصمودها أمامَ عوامل الزّمن.
وحولَ تقدير الأهالي لارتفاع الأقواس، فإنَّ ارتفاعها الظاهر للعيان فوقَ سطح التربة يبلغ حوالي /1.5/ متراً، وفراغها الداخلي حوالي /2.6/ متراً، وثخانة العمود تصل إلى حوالي أربعين سنتيمتراً تقريباً. ولا بدَّ من وجودِ ارتفاعٍ غير ظاهر للعيان تحت التربة لم يستطع أحد تقديره بدقّة حتى اللحظة، فقد يكونُ شاهقاً وعميقاً عمق التاريخ الذي مرَّ عليها. 
ماتزالُ قناطرُ "دَير حباش" ومغارتُها السحريّة مترقّبةً بعيونِ التاريخ إلى من ينظر إليها بالمقابل نظرةَ اهتمام، فهيَ وفقَ واقعها الحاليّ ما تزالُ مفتقدة إلى الرعاية والعناية من قبل الجهات الوصائيّة المُختصّة، لتبقى إرثاً عريقاً للأجيال القادمة، وشاهداً على عراقةِ أرض الأجداد وأصالةِ تعايشهم ومعتقداتهم.