حسن م. يوسف- خاص فينكس
في كل بلدان الدنيا يطلق اسم (سوبر ماركت) على السوق المركزي الضخم الذي يتكون من عدة أقسام، وتباع فيه مختلف الأغذية والمواد المنزلية والأجهزة الإلكترونية والأدوات الكهربائية. غير أن تجارنا الأشاوس مسحوا الأرض بكرامة هذا الاسم، إذ باتوا يطلقونه على دكاكينهم التي تتسع لهم بصعوبة!
صيف العام الماضي بينما كنت أتنقل بين قريتين في محافظة اللاذقية رأيت غرفة صغيرة منفردة مبنية حديثاً لا تزيد مساحتها عن ثمانية أمتار مربعة وقد كتب على جدارها بخط مرتبك (سوبر ماركت)! أدهشتني التسمية فتوقفت وكلي فضول لمعرفة ما يحتويه هذا (السوق المركزي)! ففوجئت بأن معظم مساحة الدكان يشغلها كرسي حلاق ومرآة ضخمة دون إطار مركونة الى جانب الجدار، وعلى يسار المرآة رفان من الخشب المضغوط، فوقهما ثلاث علب من المتة وعدة ألواح من الصابون وسلع بسيطة أخرى قد لا يزيد ثمنها مجتمعة عن خمسين ألف ليرة!
انكفأت مخبئاً ضحكتي في عبي قائلاً في سري: "شيء جيد أن تجارنا لم يسمعوا بعد بـ (الهايبر ماركت) أي (السوق المفرط)! وهو سوق أكبر حجماً من السوبر ماركت وأسعاره أرخص، ويفتح ليلاً نهاراً، ويحتوي على العديد من المطاعم ومراكز الخدمات وأماكن التسلية"!
أما مناسبة هذا الكلام الذي طال أكثر مما ينبغي، فهي أنني أود أن أحكي لكم قصة جرت مؤخراً في أحد مخازن (هايبر ماركت) التابعة لشركة تيسكو الإنجليزية والمنتشرة في مختلف أنحاء ماليزيا. فقد لاحظ مدير فرع الهايبر ماركت محمد رضوان من خلال كاميرات المراقبة أن رجلاً في الأربعين من العمر قد دخل إلى قسم المواد الغذائية ودس في عب سترته الفضفاضة بعض الفواكه وعلب العصير ثم حاول الخروج خلسة دون أن يدفع الثمن. غير أنه فوجئ بمدير الفرع يوقفه ويسأله عما فعله، فاحتقن وجه الرجل بالدماء، واعترف بصوت متهدج أنه كان ينوي سرقة الأشياء وعدم دفع ثمنها. هدَّأ (محمد رضوان) من روع الرجل وسأله عن سبب إقدامه على السرقة. فراح الرجل يقسم وهو يكاد ينفجر بالبكاء أن زوجته أصيبت بعد الولادة بغيبوبة مستمرة مما اضطره لترك عمله لرعاية أطفاله الثلاثة!
لم يستدع محمد رضوان الشرطة، بل أوقف الرجل في مكتبه، وأرسل أحد عناصر أمن المخزن إلى بيته كي يتأكد مما إذا كان الرجل صادقاً في روايته. ولما عاد عنصر الأمن وأكد للمدير صدق أقوال الرجل، قام محمد رضوان بمنح الرجل كل السلع التي أراد سرقتها، وقدم له مجموعة أخرى من السلع والمواد الغذائية، ومعها مبلغاً من المال، كما عرض عليه وظيفة في الهايبر ماركت الذي يديره، ولما أبلغ محمد رضوان الإدارة المحلية للشركة بالقصة، قررت أن تتكفل بدفع نفقات التحاق الأطفال بالمدرسة، ومعالجة الأم المصابة بالغيبوبة!
هزت القصة المجتمع الماليزي، وخلال أيام قليلة تم الحديث عنها عدة مرات في الصحف ومحطات التلفزيون، حتى وصل صداها إلى المقر الرئيسي للشركة في بريطانيا. فقدمت الشركة للرجل مجموعة قسائم شراء تكفي عائلته سنة كاملة. وتم عرض القصة في بعض القنوات والصحف البريطانية مع الكثير من عبارات الثناء على (محمد رضوان) مدير فرع الهايبر ماركت الذي أصبح مشهوراً، لا في ماليزيا وحسب، بل في بريطانيا أيضاً لأنه فضل الرحمة على القانون.
ذكرتني هذه الحكاية بنص ساحر لشارلي شابلن أود أن أختم به: "في أحد الأيام عندما كنت صبياً ذهبت بصحبة والدي لمشاهدة عرض للسيرك، وحين كنا واقفين في صف قطع التذاكر كانت أمامنا عائلة واقفة بانتظار دورها في قطع التذاكر. كانوا ستة أولاد وأمهم وأباهم، وكان الفقر بادياً عليهم من ملابسهم القديمة وإن كانت نظيفة. كان الأولاد فرحين جداً وهم يتحدثون عن السيرك وعن الحركات والألعاب التي سوف يشاهدونها. وبعد أن جاء دورهم لقطع التذاكر تقدم الأب وقال للشخص المسؤول عن بيع التذاكر لطفاً أعطني ستة تذاكر أطفال واثنتين للكبار. أجابه الرجل بكلمة حاضر وأبلغه بكلفة التذاكر، فسأله الأب عفواً قلتَ كم؟ فأعاد عليه الرجل الكلام، هنا تلعثم الأب وأخذ يهمس في أذن زوجته، حينها أخرج والدي عملة ورقية من فئة العشرين جنيهاً ورماها على الأرض وبعدها انحنى ورفعها ووضع يده على كتف الرجل وقال له: لقد سقطت منك هذه النقود. نظر الرجل في عيني والدي وقال له شكراً سيدي، وعيناه مليئة بالدموع، حيث كان مضطراً لأخذ المبلغ كيلا يحرج أمام أبنائه. وبعد أن دخلوا قبْلَنا إلى العرض، قام أبي بسحب يدي، وتراجعَ من الطابور. ومنذ ذلك اليوم وأنا فخور جداً بأبي، فقد كان ذلك العرض أجمل عرض للسيرك، وإن لم أشاهده."