كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

رسائل السوق

د. لمياء عاصي- فينكس

يعاني الاقتصاد السوري من عدد كبير من المشاكل الاقتصادية، جميعها تسبب ارتفاع معدل التضخم وتنجم عنه، فكأن ارتفاع التضخم هو الخصم والحكم في الوقت نفسه، الأمر الذي يسبب فوضى الأسواق التي نشهدها، ويبعث برسائل للتجار والصناعيين والمستثمرين والناس كلهم باختلاف شرائحهم وتعاملاتهم مع السوق، مفادها: تدني القوة الشرائية لليرة السورية، واضح من خلال سعر صرف العملة المحلية وأسعار السلع والخدمات، ولكن المفارقة هنا: بأن سعر الصرف عندما كان ثابتاً في الأشهر الماضية، استمر معدل التضخم بالارتفاع، وساد غلاء الأسعار وبمعدلات كبيرة، ما فاقم معاناة الناس اليومية؛ طبعاً الأسباب تعود لبعض السياسات والقرارات التي ساهمت كثيراً باستمرار ارتفاع معدل التضخم بمعزل عن سعر الصرف.

حاول البنك المركزي تخفيض معدل التضخم وتثبيت سعر الصرف بالسيطرة على الكتلة النقدية والتحكم في حركة السيولة النقدية وضبط كتلتها المتداولة، عن طريق ضبط عمليات السحب النقدي اليومي من البنوك، ومنع حركة المبالغ الكبيرة بين المحافظات، كذلك وضع آلية معقدة لضبط وتقليل المستوردات لتخفيض الضغط على العملات الأجنبية ولا سيما الدولار، ولكن أدت الإجراءات السابقة الى إضعاف الثقة بالبنوك، وأدى الى ازدياد الصعوبات أمام الإنتاج وانكمشت الحركة التجارية بشكل عام.

إن تحديد سعر الصرف بشكل اداري من قبل السلطات النقدية، بعيداً عن قواعد السوق والوضع الاقتصادي في البلد، يساهم في تشوه الاقتصاد من جهة، ونشوء السوق السوداء التي ازدادت قوة، وكان البنك المركزي أقر عدة أسعار لسعر الصرف، كما يلي: السعر الرسمي، وسعر الحوالات وسعر البدلات، وسعر التمويل للمستوردات من خلال مكاتب الصرافة، وهو سعر أعلى من السعر الرسمي وأقل من السوق السوداء، يتم تحديد السعر حسب الجهة المستوردة ويخضع لمفاوضات ونقاشات. وبتاريخ 21/8/2022 أعلن المصرف المركزي سعراً جديداً، سمي بـ "التمويل بالسعر المخفض" وتم حصره بالمصارف، لتمويل ثلاث سلع رئيسية هي القمح والأدوية ومستلزماتها وحليب الرضع؛ وجود سعر مخفض، وحسب أهم قواعد السوق ...أن وجود عدة أسعار لسلعة ما، يفسح مجالاً واسعاً للفساد والتربح غير المشروع، وهذا ما أثبته وجود سعر رخيص في المصرف المركزي لتمويل المستوردات. في الواقع، ان ما حصل منذ سنوات هو أن التجار تمولوا بسعر صرف رخيص لمستورداتهم، وبينما قاموا بتسعير سلعهم وبضائعهم حسب سعر السوق السوداء أو أعلى منه، وهذه السياسة المتبعة بتمويل المستوردات، وبغض النظر عن الحجج والمبررات، أدت الى استنزاف الدولار من البنك المركزي، واضطر حالياً، لتخفيض البضائع التي يمولها من 41 سلعة قبل ثلاث سنوات الى ثلاث سلع.

تدني القوة الشرائية للعملة المحلية وضعف السوق الداخلي، وانخفاض عوائد الاستثمار الناجمة عن ارتفاع تكاليف الإنتاج جراء العقوبات المالية والسياسية، و المشاكل التي يواجهها الاستثمار المباشر، جرّاء إدارة موضوع التضخم، سواء ترشيد الإنفاق أو الحد من المستوردات كلها عوامل أدت الى ضعف الاستثمار الخارجي والداخلي على السواء، مثلا: الفرق الكبير بين سعر الصرف الرسمي والسعر الحر في السوق لعب دوراً محبطاً لدخول الأموال الى البلد سواء استثماراً أو حوالات خارجية، كل ما سبق هي رسائل سلبية جداً الى المستثمرين.

يفترض نظرياً أن انخفاض العملة في أي بلد يشجع على مزيد من الصادرات، ولكن عدة قرارات حكومية، لعبت دوراً محبطاً لعملية التصدير وإعاقتها، ومنها مثلاً: قيام البنك المركزي بإلزام المصدرين بتوقيع تعهد بإعادة قطع التصدير، ودفع مبلغ تأمين إضافة للدوريات والمداهمات لشركات الشحن التي أوشكت على الإغلاق.

هناك ارتباط وثيق بين سعر الفائدة ومعدل التضخم، بل يستخدم معدل الفائدة كأداة فعالة لتخفيض معدل التضخم, وكل محاولة لتحييد سعر الفائدة عن معدل التضخم، ستؤدي الى المزيد من الاستغلال للقروض البنكية والتسهيلات الائتمانية في ألمضاربة على سعر صرف العملة المحلية، حيث يجب أن تعبّر الفائدة عن الكلفة الحقيقية للأموال، إذ أن هناك سعر الفائدة الحقيقي والاسمي، والسعر الحقيقي للفائدة يطرح منه معدّل التضخم، أما إذا كان معدّل الفائدة هو أقل من معدّل التضخم، فهذه رسالة قوية للمنتجين مثلاً: أن يأخذوا القروض، ويحولوا الأموال الى عملات أجنبية وأصول يثقون بها كمخزن آمن للقيمة مثل العقارات والذهب، أكثر من استخدامها في انتاج سلع, وخصوصا في ظل تدني القدرة الشرائية وضعف السوق الداخلي، وهذا عامل كبير في التأثير هبوطاً على العملة الوطنية.

أخيراً: تصعب مواجهة ارتفاع معدل التضخم، بالمزيد من التقشف وإدارة الشح والإجراءات الزجرية والمفاضلة بين المتطلبات الأساسية، ولا بد من سلوك طريق أساسي ووحيد يستند على تشجيع الإنتاج أولاً، والاعتماد على قواعد السوق في إدارة الموارد، لأن ذلك من شأنه تنشيط اجمالي الطلب في السوق الداخلي، هذه بعض تلك الرسائل والتشوهات الاقتصادية الناجمة عن ارتفاع معدل التضخم، لأن الانزلاق في متاهاته تشبه الدخول في دوامة يصعب الخروج منها.