كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

"دبلوماسية البندورة" والمجزرة المستمرة

أحمد حسن- فينكس

قبل عدة قرون دارت في إنكلترا حرب سميت بـ"حرب الوردتين"، وبعيداً عن تفاصيلها وكونها حرباً أهلية على العرش هناك، إلّا أن هذه التسمية دخلت التاريخ وقد استلهم منها كاتب "صراع العروش" أهم أحداث مسلسله الشهير.

ولأن "المغلوب يقلّد الغالب في زيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده" بحسب عمنا الكبير ابن خلدون، فقد حاولنا الدخول إلى سجل التاريخ عبر تسجيل أحد المسارات الداعمة للحرب وهو المسار الدبلوماسي باسمنا، فابتكرنا مصطلح "دبلوماسية البندورة" الذي يبدو، كما هي حال التقليد دائماً، ابتذالاً مهيناً للواقع بالمقارنة مع "الوردتين"، إلا أن أثره في سياق العدوان الجاري على فلسطين، وكما هو حال التقليد أيضاً، سيئاً ومهيناً ومحبطاً وقذراً في الآن ذاته.

فبالأمس كشفت صحيفة عربية (لا تُحسب إطلاقاً على محور المقاومة) عن هذه "الدبلوماسية" التي، وباختصار شديد، تخرق المقاطعة -اللفظية والوهمية- بين أنقرة، وبعض العرب، وتل أبيب وتمدّ هذه الأخيرة بـ"سلاح" تستخدمه في تعزيز اقتصادها وإطالة أمد عدوانها ومجازرها في فلسطين، وهذا أمر شبه مقبول، نظراً لتاريخ التعاون التركي، والعربي! الإسرائيلي، لو لم يكن الوسيط، وللأسف الشديد، رجال أعمال فلسطينيين!

فمع نجاح أهل اليمن في منع العبور البحري للسفن التجاريّة الى موانئ الكيان ونجاحه بالتالي في إقفال ميناء إيلات كنتيجة لذلك، فتح "الكيان" مع حلفائه في المنطقة بوابات أخرى منها معبر "جسر اللنبي" الأردني حيث يقوم حلفاؤه ومنهم وعلى رأسهم خليفة المسلمين رجب طيب أردوغان بتعويض إسرائيل ما تحتاجه من الأغذية لدوام عدوانها على الفلسطينيين، لكن المفاجأة، وهي في الحقيقة ليست كذلك، أن هذه الأغذية تُستورد باسم تجار فلسطينيين يقبضون عمولتهم، الملوثة بدم أشقائهم في الوطن، ثم يسلمون البضاعة لتجار إسرائيليين لتأخذ طريقها إلى السوق وتساهم، مع سواها من الخدمات، في إطالة أيام المجازر الإسرائيلية المتنقلة!

وبعيداً عن التفاصيل المطوّلة التي يمكن قراءتها في الصحيفة، فإن هذا "التعاون" يتطلّب منا إعادة التأكيد الدائم على حقيقة ساطعة يحاول الإعلام الحرّ، الغربي والعربي أيضاً، التغطية عليها بتوجيه سياسي مقصود، وهذه الحقيقة تقول إن مجازر الإبادة الجماعية في فلسطين تُرتكب بأيدٍ إسرائيلية وأسلحة أمريكية -كم ربحت مصانع السلاح هناك وهذا سبب آخر لإطالة أمد العدوان- ودعم اقتصاديّ وإعلاميّ وسياسيّ (بل وتسليحيّ) إقليمي وعربي، وللأسف الشديد بعضه فلسطيني أيضاً.

أما السبب في ذلك فهو الحقيقة الثانية التي لا بد من إعادة التأكيد الدائم عليها أيضاً، وهي أن هذه الأنظمة كلها، وضمنها إسرائيل طبعاً، برزت إلى الوجود كنتاج، طبيعي، لمرحلة تاريخية واحدة وعلى يد قابلة واحدة وبالتالي يسيّرها قرار واحد ويحكمها مجموعة "قادة" وأسر حاكمة ليسوا أكثر من مجرد وكلاء محليين لرؤوس الأموال العالمية لا بناة لمشروع وطني نهضوي تنموي وتحرري حقيقي لذلك، وهذه جملة اعتراضية، كان من السهل على مسيرتهم المظفّرة! أن تتقلّب بين قومية طوباوية ووطنيّة تابعة وتديّن زائف بحسب احتياجات كل مرحلة على حدة.

بهذا المعنى تكشف "دبلوماسية البندورة" -مساراً وشركاء علنيين وسريين- أن هؤلاء شركاء في المسار والمصير، وما يحدث بينهم من خلافات بسيطة (مثل تشبيه أردوغان الحرب العدوانية على غزة بـ"جرائم النازية" أو إعلانه الوهمي عن مقاطعة اقتصادية لإسرائيل، أو بعض التظاهرات "العربية" بتقديم مساعدات إنسانية للفلسطينيين، أو اجتماعات جامعة العرب وقراراتها سواء بتشكيل وفود جوالة، أو تسطير إدانات لفظية لا تساوي الحبر الذي كُتب بها) ليس سوى إبرة تخدير –اتضح أنها فعّالة!- لشعوب المنطقة من جهة أولى، وعدّة أخرى من عتاد الصراع "الطبيعي" بين هؤلاء الشركاء على مرتبة الحليف الأولى بالرعاية عند السيد الأبيض.

خلاصة القول: ما كشفته الصحيفة، على خطورته، ليس سبقاً صحفياً، فهو أمر شبه معروف، ثم إن توقيت هذا "الكشف" يندرج أيضاً في إطار الصراع آنف الذكر على الموقع الأول عند "السيّد"، لذلك لم يكن له أثر حقيقي على الأرض فقد صال هؤلاء، جميعاً، وجالوا بالأمس على منبر "الجامعة العربية" دفاعاً لفظياً عن فلسطين وصمودها، فيما شاحناتهم ومعابرهم المفتوحة تمدّ إسرائيل بأسباب فعلية لـ"صمودها"، أما الشعب العربي فهو -بين شوطي مباراة رياضية أو فاصل قصير بين برنامج تلفزيوني يحلّل الخلاف المبدأي بين "نجم" و"نجمة" وبرنامج آخر يقدم فاصل شتائم علنية بين رجل دين وفنانة تعدّت على "مهنته" ولقمة عيشه بفتوى ما- يجد للحق والتاريخ وقتاً ليشاهد بعض أهوال المجزرة.. ثم "يحوقل" و"يبسمل" ويحرّض الله على إسرائيل علّه يقوم عنه بمهمة الدفاع عن فلسطين!