كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

خربشات مجنون شبه عاقل.. وعقلاء يقرؤون- ج2

باسل علي الخطيب- فينكس

الجزء الثاني
لا أعتقد أن هناك شيئاً ما يشبه الموسيقا، كما تشبهها الرياضيات، لايوجد متعة تعادل متعة الاستماع الى مقطوعة موسيقية جميلة، كمتعة حل مسألة رياضية معقدة....
ذات التناغم إياه في الموسيقا، تجده في الرياضيات....
يشبه الكون مقطوعة موسيقية غاية في التناغم والانسجام، لدرجة أنك تكاد تسمع وأنت تغوص في ثناياه لحناً غاية في الروعة....
ذاك اللحن على بساطته من حيث نغماته الأولية، لكنه غاية في التعقيد من حيث نتيجته، كما هي الرياضيات تماماً، أساسها هو أبسط الأعداد، ألا وهي الأعداد الأولية، ونتائجها كل ما نراه حولنا من اختراعات...
ذاك الكلام أعلاه ينطبق على أعظم المجرات، وصولاً إلى أعمق أعماق عالم الصغائر المكون من الجسيمات دون الذرية....
ذاك التناغم يقوم على بنيان راسخ، عموده مجموعة من الثوابت العددية، لم تتبدل قيمتها، ولن تتبدل قيمتها، لأن في تبدلها انهيار الكون على نفسه....
هذه الثوابت تختزل كل ذاك الايقاع الكوني بطريقة غاية في الدهشة.....
.
تأتي سرعة الضوء (c) في مقدمة تلك المجموعة، و هي تمثل النسبة الثابتة بين المسافة التي يقطعها شعاع ضوئي في الخلاء، و الزمن الذي استغرقه لقطع تلك المسافة.....
و يتبعها ثابت الثقالة (G)، و هو المعبر عن التناسب الطردي بين قوة التجاذب الثقالي لجسمين ماديين مع كتلتيهما، و التناسب العكسي بين تلك القوة و مربع المسافة بين الجسمين...
بعد ذلك يأتي ثابت بلانك (h) لذي هو أساس الفيزياء الكمومية، و يعبر عن ثبات النسبة بين تردد الموجة الضوئية و طاقة (الكم) المرتبطة بالموجة....
أما ثابت بولتسمان (k)، فيحدد التناسبات بين درجة الحرارة و حجم الغاز المثالي و ضغطه.....
العدد (1836) يعبر عن النسبة الثابتة بين كتلة البروتون و كتلة الإلكترون، ولانغفل في هذا السياق ثابتين آخرين هما: الكتلة السكونية للإلكترون (m)، وشحنته(e).....
يأتي بعد ذلك الثابت π، ويمثل نسبة ثابتة بين محيط الدائرة و قطرها....
الثابت فاي، وقيمته تساوي .....1,618، وعليه تقوم الهندسة الإنشائية للكون، ويسميه البعض النسبة الذهبية....
ولانستطيع أن نغفل هنا عدد افوغادرو، وثابت هابل وثابت كولوم... وغيرها من الثوابت الرئيسية....
قد تبدو هذه الثوابت عبارة عن أرقام عشوائية، ولكنها ليست كذلك، فهي تحمل تلك القيم لأنها يجب أن تحمل تلك القيم، ولايمكن أن تساوي قيماً أخرى، لأن أي قيم أخرى لها لن تحقق الانسجام والتناغم الموسيقي الذي هو عليه الكون، من أكبر مجراته الى أصغر ذراته...
تشكل هذه الثوابت أعمدة البناء للكون، والملاط لقوانين الفيزياء، و تدخل في الكثير من القوانين والعلاقات التي تصف الظواهر الكونية وتشرحها...
كأن تعادل (c) بين الكتلة و الطاقة في معادلة إينشتاين الشهيرة (E=mc^2)...
أو أن يسهم (G) في صوغ الكثافة الحرجة (الحدية) لمادة الكون....
او أن يحكم (h) علاقات الارتياب في العالم الكمومي....
تلعب هذه الثوابت دور العصا الصغيرة التي يضبط بها المايسترو المستتر ذلك التناغم بين آلات الأوركسترا الكونية، و يحفظ التناسق بين إيقاعاتها....
قيم تلك الثوابت هي قيم ثابتة، لم تتغير ولن تتغير، وهذا هو اعتقادي وقناعتي.....
لكن كان هناك دائماً ذاك السؤال الذي يؤرق الفيزيائين، كيف لهذه القيم أن لا تتغير في هذا الكون النابض بالحركة والتغير؟ لماذا لاتحيد تلك الثوابت عن هذه القيم أبداً، ولو قيد أنملة؟..
ونقصد بقيد أنملة هنا جزء من ترليون ترليون جزء...
الأسئلة أعلاه ليست أسئلة بريئة، أن توجد هذه الثوابت، وأن لاتتغيّر قيمها البتة، هذا أوصل العلماء الى الاستنتاج بوجود ضابط ايقاع عظيم لهذا الكون، وهذه الثوابت هي أدواته المادية في ضبط هذا الايقاع، كأن هذه الثوابت هي جنود في كتيبة (حفظ النظام)، و عملها الدقيق جداً هو ذاك الفاصل الصغير جداً مابين حرفي النون و الفاء في جملة (كن فيكون)....
إذاً الاستنتاج أعلاه، أن للكون خالقاً ومدبراً، لم يعجب بعض المجمع العلمي على مستوى العالم، فكانت النظرية المضادة لذلك، ألا هي نظرية (الأوتار المتوازية)...
النظرية تتلخص بمايلي، أن ما ندعوه بثوابت الطبيعة الأساسية قد لا تكون ثوابت أساسية حقاً...
حيث تفترض هذه النظرية أن هذه الثوابت نشأت من (ظرف عرضي في فترة مبكرة من التاريخ الكوني)....
أي إن الإيقاعات التي تمثلها هذه الثوابت، ليست وليدة خصائص جوهرية في بنية الوجود الكوني، و إنما نتجت عن (طارئ عشوائي) في سياق (الصيرورة) التي ولّدت الكون...
ذهبت هذه النظرية إلى ماهو أبعد من ذلك، أن نظرية الأوتار تلك لا تقصر الكون على عالم واحد، و إنما تقترح عدداً كبيراً من العوالم المتباينة قد يصل عددها إلى رقم (فلكي)، يبدو أكثر غرابة من الأبعاد الخفية، و يساوي (العدد 10مرفوعاً للقوة 500..!)....
و لكل من هذه العوالم منظومة من القوانين تتسق فيما بينها ضمن الكون الواحد، و تختلف بين عالم و آخر، لترسم لنا صورة لوجود كوني عجيب، تتبعثر في أرجائه جزراً من العوالم المنعزلة. تسبح في فضاء لا نهاية.حيث أن عالمنا ليس سوى واحد من تلك العوالم، سوى نغم واحد منفرد من نغمات شتى، تتردد أصداؤها، دون أن تتجاوب أو تتخاطر، في فضاء سحيق الأبعاد لا حد له، تعجز مخيلة (سلفادور دالي) نفسه عن تصوره...
لاحظوا التعابير المستعملة أعلاه، (طارئ عشوائي)، (الصيرورة)، (ظرف عرضي)....
طبعاً نظرية الأوتار لم تكن حاجة علمية، بقدر ماهي حاجة أيديولوجية فكرية مادية بحتة، وتحتاج إلى ماهو أكثر من الخيال ومن أفلام وروايات الخيال العلمي، لتصمد أمام الحقيقة التي تنطق بها ثوابت الطبيعة......
و لما كان الغريب لا يستدعي إلا الغريب، حاول بعض العلماء ايجاد ثابت يضم كل الثوابت السابقة. وحاولوا إيجاد نظرية تضم أطراف علوم الطبيعة في كيان واحد لا تناقض فيه، أسموها نظرية (كل شيء theory of every thing).....
واعتقادي أنهم لن يجدوا هذا أو ذاك، ليس لعجزهم عن ايجادهم، إنما لأن ذاك الثابت الشامل، وتلك النظرية الكاملة، ليسوا موجودين....
وللحديث تتمة...