كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

بقية الله على الأرض.. إن شانئكم هو الأبتر

باسل علي الخطيب- فينكس:
ذات يوم من صيف 2012 مساءً، وكنت أتابع الأخبار عبر التلفاز، يظهر ذاك الشريط الاحمر على الشاشة، خبر عاجل: "الإرهابيون يفجرون سيارة مفخخة عند الكازية في منطقة...".. تسارعت ضربات قلبي، هناك يقيم الجيش حاجزاً يقوده أخي ابراهيم علي الخطيب.... اتصلت به مباشرة، لم يرد عاودت الاتصال بعد دقيقة، اتاني صوته و كأنه يلهث، كان يحاول إسعاف ومساعدة عناصره ... نعم، رد عليّ أخي في تلك المكالمة، في ذات اللحظة هناك الكثير من الإخوة والأبناء لم يردوا على أخوتهم أو آبائهم أو أمهاتهم عندنا اتصلوا....

وحتى تاريخه لم يردوا....
وكان أن عاد بعض بعض ذاك النور إلى النور كله....
ها هو جيشنا على أعتاب ادلب، و سيطرق تلك الأبواب، ومن لن يفتح بيته، سيفتحه الجيش عنوة، وسيصل جيشنا حتماً عند قرية ترنبة، هناك حيث استشهد أخي بعد تلك الحادثة أعلاه بعدة أشهر في مواجهه مباشرة مع إرهابي جبهة النصرة، حيث وصلت حدود الاشتباك بالسلاح الابيض....
نعم، قدر الله وماشاء فعل، أنه أكرم أخي بميتة أفضل....
سيصل جيشنا "ترنبة" حتماً، و سأذهب يوماً ما إلى هناك، سأطوف حول تلك البقعة التي باركها أخي و رفاقة بدمائهم، سألتقط حصاها وأرجم بها كل أبالسة العالم، سأجثو هناك وأصلي، و سيأتم بي أخي، وبعد السلام سأقبل يده...
حجاً مبرورا وسعياً مشكوراً....
وكان أن عاد بعض بعض ذاك النور إلى النور كله.....
ألتقيته في طريق الذهاب الى دمشق، ألتقيته في الاستراحة، كان هو عائد من دمشق، اسمه محمد برهوم وهو من قريتي، ذاك المحيا كان يخبرك أن كل طيبة هذه الجبال تختصرها ملامح ذاك الوجه الجميل، أخبرني أنه كان في دمشق يتقدم لمسابقة توظيف، ولكنه لم ينجح....
عندما كان يذهب كل منا إلى باصه، قال لي وهو يشد على يدي: يبدو أنه لا نصيب لنا في هذا الوطن....
التحق محمد بالخدمة العسكرية، وظل لسنوات يقاتل داعش في دير الزور.... كان قد مضى عليه عدة أشهر لم يأت لزيارة أهله، قالت لي أمه عندما كان يودعهم عائداً لرفاقه بعد انتهاء إجازته وكأنه يودعهم الوداع الاخير....
استشهد محمد بعد ذلك بأيام قليلة...
محمد لم ينل وظيفة في بلده، محمد حصل على رتبة، ولكن هناك في السماء، هذا كل شيء، عفواً، لقد نسيت، فمحمد حصل على موقع لاسمه على النصب التذكاري عند مدخل القرية....
كان محمد يحبني كثيراً، وكان يعتبرني قدوة، ويشاء الله أن يبدل الأماكن، أن صار محمد بالنسبة لي الآن هو القدوة....
وكان أن عاد بعض بعض ذاك النور إلى النور كله....
كان قد مضى على المعارك في مدينة حلب عدة أشهر، أخيراً حصلت على إجازة لبضعة أيام، ذهبت عند صديقي الشيخ علي الصاروخي (علي قاسم)، قلت له لقد مضى عليك فترة طويلة لم تزر أهلك، دعنا نذهب في إجازة لمدة يومين... نظر إلي و قال لا أستطيع قد يحتاجوني في أي لحظة، صمت قليلا كانت عيناه وكأنهما تدمعان، أستسمح لي من أبي وأمي، لقد تعبت يا أخي، ادعي الله لي في صلاتك.....
لم أكن أعرف أن ذاك الدعاء بعد الصلاة، أنا وبعض الإخوة ستنقله من مكانة البطل إلى رتبة القديس..
علي استشهد عندما كنت أقضي تلك الإجازة، وفي ذات المكان الذي كان يجهزه والده ليبني له بيتا ليسكن فيه مع زوجته المستقبلية، هناك دفنوه...
من قال أن البيوت لا تتحول الى مقامات يذكر فيها اسم الله؟.....
وكان أن عاد بعض بعض ذاك النور إلى النور كله...
كنا على ذات المقعد الدراسي طوال المرحلة الثانوية، لم يكن صديقاً فحسب، كان أخاً، أنه العميد جهاد عساف، من القوات الخاصة فرقة 17، جهاد رغم قوته البدنية كان طيباًً، كان يقول لي دائماً نحن نشكل ثنائية نموذجية، أنت العقل وأنا العضلات.... لطالما درسنا سوية عنده في البيت، وكان دائماً يدافع عن أي شخص يتعرض للتنمر، لم أعرف شخصاً بتلك القوة، ويمتلك في ذات الوقت أضعافها من الطيبة مثل جهاد....
قاتل جهاد داعش في دير الزور لعدة السنوات بجانب اللواء الشهيد جامع جامع، لو حكيت لكم بعض تلك القصص التي رواها لي عن معجزاتهم هناك على قلة إمكاناتهم و عديدهم، لظننتموني أهلوس....
جهاد استشهد، بعد تحرير دير الزور، في الحسكة في المواجهات مع رهط قسد، كان قد اشتد القتال مع أولئك العملاء في حي غويران، وحتى يؤمن انسحاب عناصره، قام بتغطيتهم واستشهد....
جهاد كان شهماً منذ تلك اللحظة التي أسماه فيها والده جهاداً، إلى تلك اللحظة التي نطق فيها الشهادتين آخر مرة...
من قال أن أسماءنا هي من تختارنا أحياناً وليس العكس؟....
وكان أن عاد بعض بعض ذاك النور إلى النور كله....
آآآاااخ كم هو هذا القلب مثقل بالأوجاع والذكريات والأحبة...
كل عام وأنتم بخير، رجال جبال التين و الزيتون...
كل عام وأنتم بقية الله على الأرض...
السلام عليكم يوم ولدتم ويوم تموتون ويوم تبعثون أحياء، السلام على بنادقكم تلقف ما يفتؤون...
كل عام وأنتم بقية الخير فينا، كل عام وأنتم بقية الأمل فينا، كل عام وأنتم بقية النور فينا...
حجا مبروراً وسعياً مشكوراً..