كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

وفوق كل ذي علم عليم..

باسل علي الخطيب- فينكس:

هل سبق و قرأتم رواية الأرض المستوية لإدوين أبوت، الصادرة عام 1884، و التي تتحدث عن عالم يتألف من بعدين فقط؟......
ذاك العالم الذي تتحدث عنه الرواية، هو عالم له طول و عرض و ليس له ارتفاع، العمال في الأرض المستوية على شكل مثلثات، و الرجال أصحاب المواقع على شكل مربعات، و الكهنة على شكل دوائر، و المنازل فيها على شكل مخمسات، المطر ينزلق منحدراً على ألواح العالم ثنائية البعد و المائلة، ضارباً الأسقف الخشبية، تلك الاسقف التي هي على شكل خطوط مستقيمة.....
تبدو الحياة حافلة و متكاملة و لا ينقصها شيء بالنسبة لسكان الأرض المستوية، و ليس لديهم فكرة عن البعد الثالث....
في أحد الأيام، وصل إلى سكان الأرض المستوية زائر من عالم البعد الثالث، و تحدث عن جمال و غنى عالمه، أومأ سكان الأرض المستوية برؤوسهم ثنائية البعد، استمعوا، و لكنهم لم يفهموا، بل إنهم لم يستطيعوا أن يتخيلوا ذاك العالم الذي تحدث عنه الزائر......
نحن تشبه تلك الكائنات الحية، الأجهزة التي نملكها تخبرنا عن عالم يتجاوز حدود تجربتنا....
في عام 1905 وضع إينشتاين نظريته النسبية، كانت أفكاره بمثابة الصاعقة في سماء العلم، أن الزمن غير ثابت، و أن معدل دقات الساعات يعتمد على سرعاتها، فعلى سبيل المثال، الثانية على ساعتك، مدتها أكبر من الثانية على ساعة مماثلة سرعتها تتجاوز 1600 كم في الساعة....
نعم، كان إينشتاين، أول من أثار الشك أن الثانية ليست ثانية، أثبتت التجارب لاحقاً صحة شك إينشتاين، الثانية في ساعاتنا تساوي فقط 0,014 بالنسبة لجزيء ينتقل بسرعة تعادل 99,99 بالمئة من سرعة الضوء.....
نحن بكل بساطة سكان تلك الأرض المستوية بالنسبة لعالم إينشتاين النسبي...
لو كنا قادرين على الحركة بمثل هذه السرعة العالية، عندها سيكون للزمن معنى مختلفاً تماماً بالنسبة لنا، فلو قمنا برحلة ما بسرعة فائقة، فقد نجد أطفالنا أكبر مما نكون عليه حينما نعود.
ليس وحده علم الفيزياء الحديث هو الذي كشف عن ذاك الكون غير المرئي...
لقد حدد علم الأحياء في القرن العشرين و لاحقاً، و عزل العديد من البنى الخلوية و الجزيئية التي تنقل النبضات العصبية، و تخزن المعلومات، و تتحكم بالبصرة و السمع، و جميعها أصغر بكثير جداً مما يمكن أن نراه بالعين....
تخيلوا كيف سيكون الأمر لو أننا تمكنا من رؤية الجزيئات الفردية، لو تمكنا من إدراك تريليونات ردود الأفعال الكيميائية الحيوية، أو العمليات البيوكيميائية التي تحدث كل ثانية في أجسامنا، أو من ملاحظة كل جزء ثلاثي فوسفات الأدينوزين عندما يطلق قليلاً من الطاقة لتقوية عضلة ما، أو عندما تخضع كل خلية عصبية في القشرة الدماغية إلى نوبة كهربائية؟!....
قد تكونوا شاهدتم فيلم لوسي (Lucy - 2014)، و إن لم تكونوا قد شاهدتموه، أنصحكم جداً بمشاهدته، الفيلم على متعته وتشويقه، فيه فكرة مثيرة جداً، قد يكون فيها الكثير من المبالغة، و لها أهداف أبعد بكثير من مجرد التشويق، وقد يكون الخيال ليس ببعيد عن بعضها كثيراً.....
ربما الاكتشاف الأكثر إدهاشاً من الواقع، بعيداً عن الإدراك الحسي، هو أن المادة كلها تسلك سلوك الجزيئات و الأمواج.....
المجال العلمي الذي يتعامل مع ثنائية الطبيعة (جزيء - موجة) يُدعى الفيزياء الكمية، معادلات الفيزياء الكمية، و الأجهزة التي تثبت تلك المعادلات، كشفت واقعاً مبهماً وضبابياً تقريباً عن فهمنا الشائع للعالم....
يمكن للجزيئات دون الذرية أن توجد في أماكن عدة في الوقت نفسه، الجزيئات دون الذرية يمكنها أن تختفي فجأة من أحد الأماكن، و يمكنها أن تظهر فجأة في مكان آخر، و لا يمكن فصل المراقب عن الشيء الذي يراقبه، في الحقيقة الأسلوب الذي تتم به مراقبة هذه الجزيئات، هو الذي يحدد طبيعتها، دققوا جيداً وجيداً في الجملتين الأخيرتين.....
العالم الكمي غريب جداً عن إدراكنا الحسي، لذلك لم نجد بعد كلمات تصفه، ونحن بالنسبه له مثل سكان الأرض المستوية بالنسبة لسكان البعد الثالث....
بالنسبة لي، إنه أمر مثير للسخرية أن يكون العلم و التكنولوجيا نفسهما اللذين قربانا من الطبيعة عبر تلك العوالم غير المرئية، هما أيضاً اللذان يفصلاننا عن الطبيعة و عن أنفسنا....
الكثير من تواصلنا مع العالم اليوم يتم بشكل غير مباشر، و ليس عبر تجربة مباشرة حسية، بل تتوسطه أجهزة اصطناعية عدة كالتلفاز، و الأجهزة الخلوية، و الحواسيب، و غرف المحادثة، وصفحات التواصل الاجتماعي، و العقاقير المسببة للهلوسة....
وعلى الرغم من أن قليلاً منا يعرف أو يهتم بثنائية (جزيء - موجة) في العالم الكمي، إلّا أن الميكانيك الكمي هو العلم الذي يقف خلف الترانزستور، و رقاقة الكومبيوتر، و كل التقنيات الرقمية الحديثة المعتمدة على تلك الأجهزة، وأيضاً، كل موجات البث و الاستقبال غير المرئية الصادرة عن محطات الهاتف.....
لكن التغيير النفسي المرافق لهذه التكنولوجيا أكثر براعة، و ربما أكثر أهمية، حيث تتزايد قناعتنا و اعتقادنا بوعي أو من دون وعي، على تجريب العالم من خلال آلات و أجهزة منفصلة.....
نحن و باستخدام التكنولوجيا، نعيد تعريف أنفسنا بطريقة يقل فيها ترابطنا مع بيئتنا المحيطة، و علاقاتنا المباشرة بها، و يقل فيها إدراكنا الحسي المباشر للعالم كثيراً....
دربنا أنفسنا على أن نكون غائبين، مددنا أجسادنا، خلقنا ذواتاً حديثة يمكننا أن تدعوها (الذوات التقنية)، ذواتنا التقنية أكبر و أصغر في آن واحد من ذواتنا السابقة، أكبر من ناحية أن لدينا طاقات هائلة للتواصل مع العالم غير المرئي، و أصغر من ناحية أننا نضحي بالجزء الأكبر من تواصلنا و تجاربنا مع العالم المباشر المرئي.....
نحن نهمش تجاربنا الحسية المباشرة، وهذا التهميش يزداد يوماً بعد يوم، صحيح أننا نكسب على المستوى المعرفي، ولكن نخسر على المستوى الانساني، والأهم أننا نخسر على صعيد العقل العاقل.....
أعود إلى الفكرة اعلاه، عن عالم البعدين، وعالم الابعاد الثلاثة، في عالمنا، عالم الأبعاد الثلاثة، الماء لايحترق...
الماء هو المركب الطبيعي الوحيد الذي لا يحترق، و أقصد بذلك حتى في المخبر.مع أنه يتكون من الهيدروجين، المادة الاكثر قابلية للاشتعال في الكون، و الأكسجين أكثر مادة مساعدة على الاشتعال....
و لكن لماذا لا يحترق الماء؟...
لأنه مادة محترقة أصلاً، الماء بكل بساطة، هو رماد ناتج عن الاحتراق، و الرماد كما هو معروف لا يحترق، الماء بكل بساطة هو هيدروجين محترق، هو بكل بساطة نتاج النار...
أعود إلى السؤال السابق أعلاه، ما الحكمة من أن الماء هو المركب الطبيعي الوحيد الذي لا يحترق؟ أعد و أكرر المركب الطبيعي... هل تظنوني هنا أطرح سؤالاً؟ سؤالي هو الجواب إياه...
و لكن ما الحكمة أنه لا يمكن تصنيع الماء؟ الماء هو أيضاً المركب الوحيد أو المادة الوحيدة التي لا يمكن تصنيعها... قد تقولون لي ماذا عن الذهب أو الألماس؟ و من قال لكم أنه لا يمكن تصنيع الذهب أو الألماس؟ وانا هنا لا أتحدث عن الالماس الاصطناعي كمثال.....
أين تكمن قيمة الذهب أو الألماس؟ في ندرتهما، أليس كذلك؟.... تخيلوا أنهم بدأوا في تصنيعهما، ماذا ستكون النتيجة؟ كل تلك الاحتياطات من الذهب و الألماس التي تملكها الدول الكبرى ستفقد قيمتها، و بالتالي ستفقد تلك الدول سطوتها النقدية و الاقتصادية، الذهب و الألماس لا تكمن أهيتهما في أنهما معدنان قيمان فحسب، افضل من غيرهما، و إن كانا حقيقة لهما استعمالات صناعية مميزة و فريدة، و لكن تكمن قيمتهما و أهميتهما في أن ذلك متفق عليه، تكمن في أن يكونا معيار الثراء و القوة الاقتصادية...
على فكرة، في القرن التاسع عشر كان الألمنيوم يعتبر أغلى المعادن بسبب ندرته، وكان الأثرياء يتفاخرون بوجود ملاعق الألمنيوم على موائدهم، ماذا عن قيمة الالمنيوم الآن؟!...
عدا ذلك، هل يمكن تصنيع الماء؟ نظرياً نعم، عملياً مستحيل، طبعاً الهيدروجين و الأكسجين موجودان بكميات كبيرة، و الماء هو اتحادهما في شروط معينة، و لكن سينتج عن هذا الاتحاد طاقة هائلة جداً، وستكون النتيجة حكماً انفجار كبير، فتصنيع و لو قطيرات صغيرة من الماء سينتج انفجاراً قد يطيح بحي كامل....
هنا تذكرت فيلم The Martian - 2015، في الفيلم و حيث بقى بطله وحيداً على المريخ، فكان لا بد له من تصنيع الماء ليستمر على قيد الحياة، و قد نجح في عملية التصنيع بعد محاوة فاشلة، كادت تودي بحياته....
هذه كذبة كبرى، مررها صانعوا الفيلم، و هي كذبة علمية لغايات ثقافية سياسية، الغاية منها إظهار الرجل الأمريكي - السوبرمان، الرجل الأمريكي - الإله القادر على كل شيء...
دعونا نطرح السؤال التالي، ماذا لو أتانا زائر من عالم ذي أربعة أو خمسة أبعاد، ليخبرنا أنه يمكن تصنيع الماء، أو أتانا زائر من عالم ذي بعدين ليخبرنا أن الماء يحترق؟.... هل يمكن أن نستوعب أو نفهم ذلك؟....
استعمل علماء الرياضيات مفهوم اللانهاية الموجبة والسالبة للدلالة على لانهائية الأرقام، وهذا المفهوم يحمل أبعاداً واسقاطات أبعد من كونها رياضية فحسب.... وعليه هل من نهاية للمعرفة؟.... لا أقصد بهذا السؤال أن تكون للمعرفة نفسها نهاية، إنما أن تكون هناك نهاية لمعرفة الإنسان، هل هناك حدود لهذه المعرفة؟... وهل هناك من عواقب إن تخطى الإنسان هذه الحدود؟...
اعتقادي أنه نعم، ستكون هناك عواقب كارثية....
والله أعلم.....