كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

التوحد!

زياد غصن- خاص- فينكس:

لولا عائلتي وبعض الأصدقاء، لكنت أصبت بالتوحد منذ زمن طويل.

بهذه العبارة أجابني بحزن شديد أحد كبار المثقفين الأصدقاء، عندما سألته عن أحواله هذه الأيام. وأضاف قائلاً: أصدقائي ممن كنا نقضي سوية ساعات من النقاش الفكري والسياسي العميق جلهم مات، ومن بقي على قيد الحياة إما إنه مريض أو سافر..

للأسف، هذا هو حال معظم المثقفين "الحقيقيين" في مختلف العلوم والمجالات...

لا أحد يستمع إليهم، لا أحد يسألهم عن رأيهم فيما يحدث، لا أحد يستشيرهم فيما يجب فعله، لا أحد يتذكرهم..!

أكثر من ذلك...

ليس هناك نشاط علمي وفكري محترم يمكنهم حضوره والمشاركة في نقاشاته، ليس هناك مركز دراسات معروف ينشر لهم دراساتهم وأبحاثهم، ليس هناك مطبوعة وطنية دورية تقدم منتجاً معرفياً مرموقاً يتابعونها.... وإلى ما هناك من مؤشرات "التصحر" المعرفي والفكري في مجتمعنا.

هناك من يحاول ألا يموت باكراً، فتراه يصر على الإنتاج المعرفي، الاستفادة من تكنولوجيا الاتصالات للاطلاع على الإنتاج المعرفي والثقافي العالمي، البحث عن الأنشطة المحلية التي تتضمن قدراً معقولاً من الجدية... إلخ.

لكن في المقابل، هناك من فضل الانكفاء في منزله باحثاً عن فضاء شخصي لثقافته وفكره، بعيداً عن التلوث الحاصل في العقول والأفكار والمؤلفات، عن المهاترات والمزايدات والتقييمات التافهة...إلخ.

جميعنا يعلم الأسباب والعوامل التي أودت بالمثقفين والمفكرين إلى هذه الحالة، لذلك فإن الأهم اليوم هو إعادة إشراك هذه الشريحة الهامة في الشأن العام، بناء المجتمع، تصويب السياسات والاستراتيجيات، تجاوز المشكلات والأزمات... وإلا فإن مشاكلنا... وما أكثرها... وما أخطرها.. ستبقى حاضرة، تهدد مستقبل البلاد والعباد.

هذه المهمة التي تفرض نفسها كأولوية، يفترض أن تبدأ من الجامعات والمراكز الأكاديمية، مروراً بالمؤسسات الثقافية والفكرية والإعلامية العامة والخاصة، وصولاً إلى الأحزاب والجمعيات والفعاليات الأهلية والمجتمعية.

وأعتقد أن خطاب السيد رئيس الجمهورية الأخير، لاسيما عندما تطرق إلى أزمة القيم والأخلاق ودورها فيما شهدته البلاد من مآسٍ وآلام، يشكل المظلة التي يمكن من خلالها فتح أوسع حوار وطني مع النخب الثقافية والعلمية، للمساهمة في إعادة بناء المجتمع بمؤسساته وقيمه وأخلاقه.

لا أنكر وجود جهود مؤسساتية وفردية لتحريك مياه المجتمع الراكدة في مجالات عدة، وهي تمثل بحق نقاطاً مضيئة، إلا أنها في ظل حالة التجهيل الشائعة، وتراجع دور قطاعات أساسية في الحياة العامة كالجامعات والمدارس ووسائل الإعلام التقليدية، تبقى جهوداً مبعثرة ومحدودة التأثير، أو غير قادرة على أن النهوض بالمهمة لوحدها.

هامش: ليس المثقفون الملتزمون وحدهم المعرضين للإصابة بمرض التوحد، فكل شريف ونزيه في هذا البلد بات المجتمع نفسه يصفه بأنه "متوحد" يسبح عكس التيار!