كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

أطباء أم نهَّازون؟

مروان حبش- فينكس:

  يمكن القول إن تاريخ الطب بدأ مع أول إنسان تألم وأول إنسان اجتهد لكي يخفف من آلامه، وهو النجاح الأجمل في تاريخ البشرية.
كان الطب وثيق الارتباط بالدين وبالخرافة يمارسه الكاهن أو الساحر بطقوس مؤثرة رهيبة ورقى سحرية تؤثر في خيال المريض وتطلقه من عقاله، أو من خلال اللجوء إلى التنويم المغناطيسي، أو خليط من أدوية تجريبية.
وفي بلاد اليونان، وخاصة في القرن الخامس قبل الميلاد كانت نهضة الطب القائم على العقل، وتنافس الطبَّان الديني والدنيوي، وقد أفلح العقلانيون رويداً رويداً في إقامة الطب على قواعد العقل. وكان الطبيب "الكمايون" خريج المدرسة الفيثاغورية وأكثر أطباء اليونان شهرة قبل أبقراط ويلقبونه الأب الحق للطب اليوناني.
كان أبقراط 460- 370ق.م أعظم أطباء زمانه بلا منازع، وله ولزملائه أكبر فضل بأنهم حرروا الطب من الدين والفلسفة أيضاً، وكان واقعياً ولا يتعاطى مع الأساطير، ويكافح لفهم الطب على أساس العقل والمنطق، وأن النظريات الفلسفية لا شأن لها بالطب ولا موضع لها فيه.
لقد نشأت منذ أيام الملك البابلي حمورابي 1810- 1750ق.م، مهنة منتظمة للأطباء ذات أجور وعقوبات يحددها القانون، فكان المريض الذي يستدعي طبيباً لزيارته يعرف مقدماً كم من المال يجب عليه أن يؤديه نظير هذا العلاج أو ذاك، ومقابل هذه الجراحة أو تلك. وإذا كان المريض من الطبقات الفقيرة نقص الأجر لكي يتناسب مع فقره، وإذا أخطأ الطبيب أو أساء العمل كان عليه أن يؤدي للمريض تعويضاً، بل لقد بلغ الحد في بعض الحالات التي يكون فيها الخطأ شنيعاً أنْ تقطع أصابع الطبيب حتى لا يمارس مهنته عقب هذا الخطأ مباشرة.
ومما ورد في قسم أبقراط اليوناني لمزاولي مهنة الطب في ذلك الزمن: (أوصيك ألا تقسو على أهل المريض، وأن تراعي بعناية حال مريضك المالية، وعليك أيضاً أن تقدم خدماتك من غير أجر، وإذا لاحت لك فرصة لأن تؤدي خدمة لإنسان غريب ضاقت به الحال فقدم له معونتك كاملة، وذلك أنه حيث يوجد حب الناس يوجد أيضاً حب المهنة).
ولقد حاول أبو بكر الرازي (أبو الطب العربي) 860-925م في كنابه (أخلاق الطبيب) وضع ميثاق شرف مهني للأطباء يقوم على عقد أخلاقي بين الطبيب ومرضاه الذين يعتادونه، وأن يكون رفيقاً بالناس، وعدم تكبره على العامة والفقراء إذا وجد بغيته المالية في الخاصة والأغنياء. وليت الأطباء يعيدوا قراءة هذا الكتاب بطريقة معاصرة تمكنهم من ادخال بعض الأخلاقيات المهمة لهذه المهنة الجليلة.
من هذا المفهوم لمهنة الطب ولممارسيها وُضِع قَسَمٌ للأطباء قبل مزاولتهم المهنة في بلدان العالم ومنها سورية، أطلق عليه قسم أبقراط، ولم يعد الأطباء السوريون مجبرين على أدائه بذريعة تنظيم المهنة بنصوص قانونية. وإن المؤتمر العالمي الطبي الإسلامي الذي انعقد عام 1981م، أقر قسماً، ومما ورد فيه "أن أحفظ للناس كرامتهم، وأستر عوراتهم، وأحفظ سرهم، وأن أكون على الدوام من وسائل رحمة الله... وأن تكون حياتي مصداق إيماني في سري وعلانيتي نقياً مما يشينني أمام الله ورسوله والمؤمنين. وأن أخفف من آلام المريض بكل ما أستطيع وبما يتاح لي من وسائل بكل أنواعها، وأن أستخدم الأسلوب المناسب للتخفيف عنه.
كما أن الجمعية العامة للرابطة الطبية العالمية التي انعقدت في سويسرا في شهر أيلول 1948، تبنت قسماً للطبيب، ومما ورد فيه: "أن يكرس الطبيب نفسه من أجل خدمة البشرية... وأن يمارس مهنته بضمير ونبالة... وأن صحة المريض ستكون لها الاعتبار الأول ويحافظ بكل السبل على الشرف والتقاليد النبيلة لمهنة الطب.
لابد أن هذه الشريحة من المجتمع تستحق العيش الكريم عن غير طريق الاستغلال المبين، ولكن بعضاً منها ابتعد كثيراً وشط بها المزار عن إنسانية المهنة وأهدافها البعيدة كل البعد عن انتهاز الفرص وابتزاز المريض وإرهاقه بطلب أجور خيالية للمعاينة أو للمعالجة، وأحياناً بالقطع الأجنبي، ولا يدخل في هذه الأجور الخيالية كلفة المستشفى الباهظة والمرهقة جداً، وهذا طبيب يأخذ أجره كاملاً حتى لو فشل في معالجة المريض أو في حال توفي المريض أثناء عمل جراحي، وآخرون يرفضون علاج مريض ويتجاهلونه لفقره.
إن هذا البعض النهَّاز المستغل الذي يبغي الإثراء الفاحش بسرعة، وعلى حساب لقمة عيش الفقراء، وهو على دراية بالواقع المعيشي لأكثر من تسعين بالمائة ممن بقي من الشعب على أرض الوطن. إن هذا البعض يشوه سمعة العاملين بهذه المهنة، ويتغاضى عن أنه منذ أن وجدت مهنة الطب كانت غايتها الرئيس تخفيف آلام المرضى الجسدية والنفسية، وكذلك تخفيف الأعباء المادية عن كاهل أهلهم.
وكل التقدير لأولئك الأطباء الشرفاء، وللأطباء الذين يخصصون يوما في الأسبوع لمعاينة الفقراء من غير أجر، ولأولئك الذين يمتنعون عن أخذ أجر حين يعرفون حال المريض المادية، مع تقديم الدواء لهم بالمجان في حال توفره عندهم، وهؤلاء هم المرجع لأخلاقيات مهنة الطب.