كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

وقت كان الحاكم ُخادماً لشعبه فعلاً لا قولاً وكان اللصُّ يُعدم الملك والمشرع حمورابي

مروان حبش- فينكس:

لقد اكتشفت قوانين حمورابي في أنقاض مدينة سوس في عام 1902 منقوشة على أسطوانة من حجر الديوريت، ونقلت من بابل إلى هناك حوالي 1100 ق.م، فيما نُقِل من مغانم الحرب وقد ضلت هذه القوانين محتفظة بجوهرها خمسة عشر قرناً كاملاً، رغم ما طرأ على أحوال البلاد من تغيير ورغم ما أدخل عليها من تفاصيل، وكان تطورها يهدف استبدال ما كان فيها من عقوبات دينية بغيرها دنيوية.
ولماَّ أنْ عهد "أنو إله السماء الأعلى" و "بيل رب السماء والأرض" الذي يقرر مصير العالم، حُكْمَ بني الإنسان إلى "كبير الآلهة مردوخ" ... ولمَّا أن نطقا باسم بابل الأعلى، وأقاما فيها مملكة خالدة أبد الدهر قواعدها ثابتة ثبات السماء والأرض، في ذلك الوقت ناداني "أنو وبيل": أنا حمورابي الأمير الأعلى، عابد الآلهة، لكي أنشر العدالة في العالم، وأقضي على الأشرار والآثمين، وأمنع الأقوياء أن يظلموا الضعفاء...، وأنشر النور في الأرض، وأرعى مصالح الخلق. أنا حمورابي الذي اختاره "بيل" حاكماً، الذي جاء بالخير والوفرة... والذي وهب الحياة لمدينة "أورك"، والذي أمدَّ سكانها بالماء الكثير...، والذي خزَّن الحب...، والذي أعان شعبه في وقت المحنة، وأمَّن الناس على أملاكهم في بابل، حاكم الشعب، الخادم الذي يشكر أعماله "أنو".
إن هذه العبارات لذات نغمة حديثة في أعرق الدول الديمقراطية، وإن القارئ ليتردد قبل أنْ يصدق أنَّ قائلها حاكم شرقي عاش في عام 2100 ق. م.
إن قوانين حمورابي شريعةٌ تفتتح بتحية الآلهة، ولكنها لا تحفل بها بعدئذ في ذلك التشريع الدستوري البعيد كل البعد عن الصيغة الدينية، وهي تمزج أرقى القوانين وأعظمها استنارة بأقصى العقوبات وأشدها، وبإجراءات قضائية محكمة وعمل حصيف يحدُّ حتى من استبداد الأزواج بزوجاتهم.
لقد بلغ عدد قوانين حمورابي 285 قانوناً مرتبة ترتيباً يكاد يكون هو الترتيب القانوني الحديث، ولا تقل رقياً عن شريعة أية دولة ديمقراطية حديثة، فقسمتْ إلى قوانين خاصة بالأملاك المنقولة، وبالأملاك العقارية، وبالتجارة والصناعة، وبالأسرة، وبالأضرار الجسيمة، وبالعمل. وقلَّ أنْ يجدَ المرء في تاريخ الشرائع كله تعابيراً أرق وأجمل من التعابير التي يختتم بها هذا الحاكمُ البابلي العظيم شريعتَهُ: (إنَّ الشرائع العادلة التي وقَّع عليها الملك الحكيم حمورابي، والتي أقام بها في الأرض دعائم ثابتة، وحكومة طاهرة صالحة، أنا الحاكم الحفيظ الأمين عليها، في قلبي حملت أهل أرض سومر وأكَّاد... وبحكمتي قيدتهم، حتى لا يظلم الأقوياء الضعفاء، وحتى ينال اليتيمُ والأرملةُ العدالةَ... فليأت أي إنسان مظلوم له قضية أمام صورتي، أنا ملك العدالة، وليقرأ النقش الذي أقمته، وليلقِ باله إلى كلماتي الحكيمة، ولعلَّ ما كتب على هذا النصب يكون هادياً له في قضيته، ولعله يفهم منه حالته، ولعله يريح قلبه، فينادي: حقاً أن حمورابي حاكمٌ كالوالد الحق لشعبه... لقد جاء بالرخاء إلى شعبه مدى الدهر كله، وأقام في الأرض حكومة طاهرة صالحة.... ولعلَّ الملك الذي سيكون في الأرض فيما بعد وفي المستقبل يرعى عبارات العدالة التي نقشتها على النصب الذي أقمته).