كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

سقراط والحروب المحلية

مروان حبش- فينكس:

إن دراسة الماضي لَتُعَدّ، بحق، عديمة النفع إذا لم يُجْعل هذا الماضي مسرحية حياة، أو إذا لم تُضئ لنا دراسة ظلمات حياتنا الحاضرة، وطغيان بحار الهمجية عليها، وترديها المشؤوم في الجهالة والفوضى، وما نقاسيه من اضطهاد ورعب وهول. إن هذه المسرحية الكبيرة تشبه شبهاً عجيباً ما نعيشه هذه الأيام والمشاكل التي نعاني منها، وتلقي ضوءاً ينذرنا بسوء المصير.
يجب أن نوازن كل مرحلة من مراحل التاريخ، وكل ناحية من نواحيه بما يقابله في مجرى واقعنا الحاضر، ونتخذ من هذه الموازنة عظة تبعث فينا الحذر والإقدام.
إن ما كان في الماضي من انحطاط أخلاقي وفساد وإرهاب وتسلط وصراع هويات، لهو عين الصراع القائم في بلدان عديدة، والذي لا تكاد تخبو ناره حتى تشتعل من جديد فتلتهم فترات السلم التهاماً، وإن فيما كنا وما زلنا نبذله من جهود لنحتفظ بقبس من ضياء الحرية ننتزعه من السُلَطُ المستبدة القائمة لنذير بما ينتظرنا من واجب ثقيل.
كان سقراط أثينياً فخوراً بموطنه، وكان يرى أن مدينته قد فاقت سائر بلاد العالم في أفكارها وخطبها حتى أصبح تلاميذها معلمي الدنيا بأجمعها، ولكنه كان يفخر، أيضاً، بيونانيته أكثر من فخره بأثينيته، ولم يكن معنى الهلينستيه عنده، كما لم يكن معناها عند رجال العصر الهلينستي هو الانتساب إلى جنس بعينه، بل كان معناها الاشتراك في ثقافة بعينها، وكان يشعر بأن هذه الثقافة هي أرقى ثقافة ابتدعها الإنسان في أي بلد من بلاد العالم، وكان يحزنه ويقض مضجعه أن يرى البرابرة في "إيطاليا، وصقلية، وأفريقية، وآسيا، والبلقان"، يحيطون بهذه الثقافة من جميع الجهات، ويزيدون كل يوم قوة، على حين أن الدولة اليونانية كانت تقضي على نفسها بحروبها الداخلية، وما أكثر الشرور التي تلازم الطبيعة البشرية، ولكننا قد اخترعنا من الشرور التي تفرضها علينا الطبيعة بإثارة الحروب والانقسامات الداخلية، والناس ينظرون بعين الرضا إلى ما تؤدي إليه الحرب القائمة بين دول المدن من آلام حقة وكوارث لا حصر لها، وهم يبتهجون بما يصيب غيرهم من الأحزان أكثر من ابتهاجهم بما ينالون من النعم. وكان يقول: (إنه إذا كان لا بد لليونان أن يقاتلوا، فَلِمَ لا يقاتلون عدواً حقيقياً؟ لِمَ لا يطردون الفرس إلى هضابهم؟)، ويتنبأ بأن شرذمة قليلة من اليونانيين تستطيع أن تهزم جيشاً كبيراً من الفرس، وقد توحد حربٌ وطنية من هذا النوع بلاد اليونان في آخر الأمر، وليس أمام اليونان إلا واحدة من اثنتين، فإما وحدة اليونان، وإما انتصار البرابرة ولا ثالثة لهما. وأهاب أن توقع دول المدن صلحاً فيما بينها يؤمن كل دولة يونانية من أن لا تعتدي إحداها على الأخرى، "وإن ما نسميه امبراطورية لهو في الحقيقة كارثة، لأنها بطبيعة تكوينها تفسد كل من له صلة بها، وأن الاستعمار قد قضى على الديمقراطية، لأنها قد علمت الأثينيين أن يعيشوا على الجزية الأجنبية، فلما خسروا هذه الجزية أرادوا أن يعيشوا على الإعانات التي تقدمها لهم الدولة، ورفعوا إلى أعلى المناصب من وعدوهم بأكثر معونة".
وفي خطاب له موجه لذوي الأمر: "إنكم حين تتناقشون في أعمال الدولة ترتابون في أصحاب الذكاء الفائق ولا تحبونهم، وترفعون بدلاً منهم من يتقدم إليكم من الخطباء التافهين والمتمجدين، إنكم تفضلون السكارى عمن لا يتعاطون الخمر، ومن لا عقل لهم عن الحكماء، ومن يبددون أموال الدولة وينهبونها عن الشرفاء الذين يؤدون الخدمات العامة وينفقون عليها من مالهم الخاص، وعليكم أن تعلموا بأن القادرين من المواطنين الذين يرقون رقياً طبيعياً إلى أعلى المناصب، إن هؤلاء يصبحون من تلقاء أنفسهم عقل الدولة الناضج".ِ