كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

عن "رفاقية" غسان كنفاني في الذكرى الواحدة والخمسين لاستشهاده

عدنان بدر حلو- فينكس:

من أفضال الحياة عليّ أنها منحتني الفرصة للعمل مع الأديب المناضل غسان كنفاني، وإلى جانبه لمدة ثلاث سنوات متواصلة حتى يوم استشهاده. إذ كان قد اختارني نائبا له ومعاونا في رئاسة تحرير مجلة "الهدف" عام 1969.
وقد سجلت تجربتي هذه في كتابي "مطار الثورة... في ظل غسان كنفاني" الصادر عن دار كنعان في دمشق عام 2008.
سأحاول الآن في هذه الشهادة المتأخرة أن أستعيد بعض اللمحات المتعلقة بشخصية غسان وتصرفاته تجاه العاملين معه، وبعض جوانب من حياته خلال تلك المرحلة التي عشناها معا.
كان غسان يصل إلى مكتبه في المجلة قبل جميع المحررين. وكان آخر من يغادر في المساء، بعد أن يكون قد اطمأن إلى أن كل الأعمال والمهمات التحريرية والفنية قد تمت بالشكل المطلوب.
في ذلك الوقت المتأخر من اليوم لم يكن ليبقى من العاملين قي المجلة سوى الرفيق عبد الرؤوف الذي يتولى شؤون المطبخ لخدمة العاملين والضيوف. وهو شاب فلسطيني من مخيم برج البراجنة. وكان غسان حريصا بشكل دائم على إيصاله بسيارته إلى المخيم قبل أن يتوجه إلى منزله في محلة الحازمية.
كان من عادة أبي فايز أن يقوم (بعض الأحيان) بعد نهاية اليوم بزيارة إلى أحد مقاهي شارع الحمرا أو الروشة حيث يمضي بعض الوقت مع زبائنها الدائمين من الكتاب والصحافيين والفنانين المعروفين. وكان يحرص حتى في مثل هذه الحال على اصطحاب عبد الرؤوف ومشاركته في تلك الجلسات قبل أن يقوم بإيصاله إلى المخيم ككل يوم آخر؟
أيضا كان من عادة غسان أن يستقبل العديد من الصحافيات والصحافيين الأجانب (وبشكل خاص من الدول الاسكندنافية) وكان يدعوهم لقضاء بعض الوقت في مجلة "الهدف" حيث يتفاعلون مع عمل المحررين وما يتصل بالكثير من النشاط السياسي والإعلامي للجبهة الشعبية، ثم كان يدعوهم ويدعونا معهم إلى العشاء في منزله بضيافة زوجته آني (الدانمركية)، وكان هذا التفاعل القريب جدا من العفوية يترك لدى هؤلاء الأصدقاء انطباعات إيجابية ساهمت كثيرا في تنشيط حالة تفهم للقضية الفلسطينية في ذلك القسم الأوروبي الشمالي الذي كان في الأصل بعيدا عن شؤون منطقتنا.
اخترت هذه العلاقة مع عبد الرؤوف والعاملين الآخرين في المجلة كمدخل للحديث عن أهم مزايا غسان في التعامل مع رفاقه وزملائه وجميع العاملين معه في المجلة أو الجبهة. إذ كان حريصا على تحصين العلاقة بروابط إنسانية نبيلة وجميلة، وفي مقدمتها الثقة التي توطد العلاقات، باذلا كل جهده لمنحهم فرص تطوير قدراتهم وكفاءاتهم والارتقاء بالمسؤوليات التي كان يشجعهم على تحملها والنجاح فيها..
أحد الأمثلة على ذلك أنه رشحني في أواخر شهر كانون أول 1969 (ولم بكن قد مضى على التحاقي بالهدف سوى أربعة أشهر) لتمثيل الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين أمام المؤتمر السنوي للاتحاد العام للطلبة العرب في المملكة المتحدة وآيرلندا إلى جانب الأخ هاني الحسن ممثلا عن حركة فتح والدكتور خليل الهندي عن الجبهة الديمقراطية، ثم متابعة المهمة بجولة سياسية وإعلامية وتنظيمية على عدد من البلدان الأوروبية.
كان، رحمة الله على روحه، يبذل كل طاقته من أجل دفع العاملين معه للتقدم وتحقيق العطاء الأقصى والأفضل.
- هل كان لدى غسان إحساس بأن فرصته في الحياة لن تكون طويلة؟
كثيرا ما طرحت هذا السؤال على نفسي وأنا أتابع حرصه على الإنتاج الفكري والسياسي والفني المتنوع والغزير.
هل كان مرض السكري من النوع الأول الذي رافقه منذ الطفولة وفرض عليه أن يزرق نفسه بإبرة الأنسولين يوميا، عاملا في خلق مثل هذا الشعور لديه؟
- أمر آخر تعرفت عليه في شخصية غسان من خلال قربي منه، هو انه كان يملك رؤيا تقدمية كانت تظهر بداية في أعماله الأدبية قبل أن تظهر بعد فترة غير قصيرة في إنتاجه السياسي أو الفكري. هذه الرؤية تجلت بشكل رائع في روايته "أم سعد" التي كتبها مباشرة بعد نكسة حزيران 1967، في حين لم تظهر بالمستوى نفسه في الكتابات السياسية إلا بعد أكثر من ثلاث سنوات في دراسته الهامة جدا عن ثورة 1936، ثم في المقال المتأخر حتى الأيام الأخيرة من حياته الذي عالج فيه قضية الفدائي أبو حميد الذي اغتصب فتاة من الجنوب ثم حاكمته منظمة التحرير وحكمت عليه بالإعدام.
- أعود إلى البداية حيث كان غسان أول من يحضر إلى الهدف وآخر من يغادرها، وهذا ما جعلني أفاجأ صباح السبت 8 تموز 1972 بأن سيارته ليست في المكان المعهود! وما أن هممت بالترجل من سيارتي حتى فوجئت بجميع العاملين في المجلة يتدافعون على درج البناية وهم يحاولون أن يخبروني بأن انفجارا قد أصاب غسان أمام منزله في الحازمية وهو في حالة الخطر! فهرعنا بأقصى سرعة ممكنة إلى هناك حيث وجدنا أمام مدخل الحديقة وفي الجوار حشدا كبيرا من الناس ومن رجال الشرطة. وما أن دخلنا من خلال ذلك الحشد حتى فوجئت بالرفيق زكي هللو (اليد اليمنى للدكتور وديع حداد) وهو يناديني من الجل الذي يقع تحت البناية: "عدنان عدنان هذا ما تبقى من غسا ن!"، وكان يحمل بين يديه الجزء العلوي من جسد الشهيد (الرأس وبعض الصدر)، ومع وصوله إلى مقربة مني رمى حمله بين يدي فكدت أسقط على الأرض من هول اللحظة لولا أن الرفاق تمسكوا بي وساعدوني على الصعود إلى المنزل بذلك الحمل الفاجعة!
أختم بملاحظة سبق أن نشرتها بعد عام على استشهاده، قلت فيها إن للموت دويا يكون كبيرا مع الوفاة مباشرة ثم يتلاشى مع مرور الوقت، إلا مع غسان كنفاني فدوي غيابه يزداد قوة وحضورا مع مرور الزمن.
وهذا ما بات واضحا جدا مع تصاعد حضوره في الذاكرة الفلسطينية والعربية وحتى العالمية عاما إثر آخر..